أبو العباس ابراهام يكتب عن كأس العالم و كرةالقدم

الزمان أنفو- لم يعد يمكن تجاهل كرة القدم، وبالأخصّ كأس العالم. فيمكن تخيّل هيغل ودريدا يريان في اللعب أقصى غايات الجِدّ. وحتى نيويورك تايمز، من برجها الأميركي، صارت تستثمر في كأس العالم أكثر من الحرب في أوكرانيا. ليس ذلك لأن هذه الرياضة تشكّل ثالث نشاط عالمي مدرٍّ للدخل. وإنّما لغلبة القضايا العالمية في الهجرة والحرية والحقوق والفروق بين الشمال والجنوب.

الكأس سياسية.

في البرازيل وجد البولسارنيون واللولاليون طريقةً للولاء والبراء بين أفراد الفريق. وفي فرنسا طرحت مسألة التعايش، وهي نفسها المسألة الاستعمارية. وفي مجالنا الإسلامي طرحت مسألة الهويات القاتلة: العربية والأمازيغية والإفريقية والإسلامية. وطرحت الخصوصية الإسلامية: فهل يمكن للإسلام أن يستضيف غير الإسلام في ثقافة عالمية؟ وكيف يجب على غير المسلمين أن يتصرّفوا في استضافة غيرهم؟ وهل عليهم أسلمتهم؟ وهل يمكن للإسلام أن يتعامل مع شيء دنيوي بدون الدِّين؟ وهل يمتلك المسلم جسداً أو أرضاً بلا خصوصيات؟

-2-

شعوبنا تشعر ليس فقط بالمظلومية، بل وبالغبن العالمي. وهي تنظر للأشياء العالمية على أنّها غير عادلة. ولذا يكثر فيها اعتبار المباريات مغشوشة والحكّام متآمرين والفِرق غالبة بالحظ لا الاستحقاق (كما أنّها لا تخرج السماء من الربح والخسارة الكروية فالألمان انهزموا لأنهم يأتون الذكران من العالمين). إلاّ أنّ هذا الشعور بالغبن لم يعد خصوصية محلية وإرثاً استعمارياً. فالوسم العالمي بالأمس اعتبر المباراة مغشوشة لصالح الأرجنتين (رغم أنّه نصرٌ جدير). الجماهير أصبحت تشعر بأن اللعبة غير عادلة وذلك ترجمة لعدم العدالة الاجتماعية في العقود الأخيرة. إنّها مشاعر التوجّس من الرأسمالية. حتى الجديرون صار ينظر إليهم أنّهم متآمرون. فكما يعرف الأميركيون فحتّى أكثر الجدارات إنّما تحصّلت بامتيازات ما.

ولعلّ ما ميّز طرافة شعبنا كان استدعاء الخرافة والبحث عن مشجعين منحوسين تُنسَب إليهم الهزيمة. ففي الخفة تتسلّل جدية ما. فما إن يعثر أحد الحفريين عن الشخص المشؤوم والمسؤول عن غلبة الفِرق حتّى تتسلّط الأضواء والهاشتاقات على البسوس الجديدة. ولكن البسوس فيما بعد الحداثة لم تعد مناضلة ومسعرة حروب، بل صارت شخصية نوادرية ذات متابعين وعوائد ومداخيل. صارت طُوّيْس.

يبدو أيضاً أنّ شعوبنا ما زالت ترى الهويات بشكل عشائري: فالفريق الفرنسي ما زال عندها فريقاً إفريقيا، رغم أنّ الأفارقة حقيقة أوروبية، ليس فقط منذ بواكير الاستعمار، بل حتّى منذ الإلياذة (اقرأ مثلاً “أثينا السوداء” لمارتين برنال). إنّ فشل المنظار العشائري في إدراك التعدّد العرقي لأوروبا يُخفي ميزاً خفياً وعدم قدرة على فهم تلاقحات اليوم وقولاً بالجوهرانية الهوياتية واستبدالاً للجنسية بالأنساب.

3-

لوهلة استيقظ أملٌ خلدوني أنّ إفريقيا، من خلال المغرب، ستكون الشيئ القادِم، وأنها من سيكسر احتكار أوروبا وأميركا اللاتينية لكأس العالم. إلاّ أنّنا نُغفِل أنّ أوروبا زادت من سيطرتها حتّى على حساب أميركا اللاتينية في العقدين الأخيرين. صحيح أنّ فرقاً جديدة في أوروبا ظهرت في العشرين سنة الماضية، وبالأخص فرنسا وكرواتيا، ولكن الفرق الكلاسيكية ظلّت حاضرة. أمّا إفريقيا فبرغم الإنجاز المغربي فيبدو أنّها خسرت تراكمات متثمّلة في أفول فرق تاريخية كالكاميرون ونيجريا. يبدو الوضع في إفريقيا وضعا خلدونياً متسماً بالصعود والانحطاط المتسارع وحتّى الحظّ؛ بينما الوضع في أوروبا وأميركا اللاتينية (باستثناء منتخبات تاريخية كالأوروغواي والمجر وبلجيكا) يتسم بالتراكم التاريخي والمثابرة الجيلية وقلة الانقطاعات (رغم أن انحطاط ألمانيا صار مقلقاً لتاريخ هذا الفريق).

إنّ المركزية الأوروبية ليست مركزية هوياتية، بل هي مؤسّساتية: استثمارات أكبر، وانفتاح أكبر، واستفادة من الهجرة الرياضية، ناهيك عن امتيازات تاريخية. لربما هي استنزاف لإفريقيا وغيرها. ولكن الأمر ليس مجرّد ذلك. فالنموذج الخليجي في تجنيس اللاعبين العالميين واكتتاب النجوم العالميين في شيخوختهم ما زال متواضعاً في إنجازاته. ما زالت أوروبا-أميركا عامرة بالعنصرية، وما زال المهاجرون في خطر، وبالأخصّ إذا صعد وتعسكر اليمين. ولكن أوروبا هي فعلياً بوتقة انصهار بالمقارنة، وقد انتهت فكرة أوروبا-أميركا البيضاء.

4-
إنّ السؤال الآن ليس كيف يستضيف الإسلام غيره، وإنّما أية إمكانيات للإسلام وللجنوب العالمي في الهجرة إلى الشمال. ففي الشمال، المتعدّد هوياتياً وسياسياً، سيأخذ المهاجرون ثقافة جديدة متسمة بهوياتهم الجنوبية وانصهاراهم الشمالية. وهذا سيكون شبيهاً بالأندلس حيث كان الإسلام عولمة عربية وأمازيغية وقوطية واندالية وإفريقية. فسيجدون سياقاً تزدهر فيه مواهبهم. فما تحتاجه القارة ليس المواهب ولا الفطرة، بل الفرص والمؤسّسات. للأسف فإنّ قوارب الهجرة الكثيفة تُظهر أنّ كثيراً من الأفارقة قد يئسوا من تحقيق ذلك في قارتنا “السعيدة”. هذا اليأس هو ما سيمدّ الشمال بالدم. فالشمال لن يبقى هوية بيضاء، بل سيكون عولمة اجتماعية، وانتصاراته لن تكون بيضاء، بل عالمية. ورغم أنّ كأس العالم فشل في أن يكون كأس عالم، بسبب احتكار الشمال، إلاّ أنّه بالفعل سيكون كذلك بالنظر إلى الهويات العالمية للفرق الشمالية. إنّ معظم الشمال يتعولم بينما كثيرٌ من الجنوب يتقوقع.

إنّ كأس العالم، كما كلّ شيء حولنا، يطرح علينا تحدّيات في مسألة الخصوصية والكونية. ويجب أن نتعلّم كيف نمفهمها أولاً، وكيف نجيب عليها ثانياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى