أوراق مسافر .. 1 – أمريكا

altكان يوما سبتمبريا من صيف عام 2007 وكنا رفقة ثلاثة أنا وزميل لي من البحرين وزميلة عراقية نجوب شارع ابرودواي – لا بحثا عن المسارح على الأقل بالنسبة لي في تلك الظهيرة – بل سعيا في مناكب تلك المدينة الجميلة التي تعكس فسيفساء أمريكا الغريبة. كنا قد عدنا للتو من رحلة استكشاف لجزيرة الحرية (Liberty island) حيث الحرية مرموز لها على الطريقة الأمريكية : نصب كبير يبهر العالم ويثري الخزينة ويحول الحرية إلى كهنوت معبود يطأه الناس ليثبتوا من ثم تحررهم.

لم تكن الرحلة سهلة إلى تلك الهدية الفرنسية التي ردها الأمريكيون بنصبٍ كثيرة على الساحل النورمندي الفرنسي صغيرةِ الحجم مقارنة بتمثال الحرية لكن عميقة المغزى لكونها كانت رموزا لزُمر من شباب وأواسط وكهول أمريكا قضوا دفعا ل”هتلر” ودفاعا عن فرنسا ..

وحتى نتمكن من شراء تذاكر العبارة التي ستقلنا كنا مرغمين على الدخول في طوابير حلزونية طويلة الامتداد لكنها قصيرة الانتظار لالتزام الناس بأماكنهم ولكون الانتظار كان فرصة لتأمل منظر ذلك الركن القصي من “نيويورك” حيث تهب رياح – لولا أن يفندني رفيقاي- لقلت إنها ذاتها التي تجعل المُضّجع “ساحل أرحال” في خيمة في ولاية اترارزة – في أواخر شهر ابريل- ينام ملء جفونه لا يزعجه ما تُساقط عليه الريح من محتويات “أكسرْ” من رُطب ونواشف ..

alt

خاض بنا المركب “خليج نيويورك” متجها إلى”جزيرة الحرية” ونحن أسرى ذلك المنظر الرائع الذي حرصت أن أتمعن في تفاصيله حين بدأت قطع نيويورك المعمارية تتراءى فهي مما لا يدرك إلا بالبعد عنه. وعلى الجهة الأخرى من القارب يتقارب مجسم المرأة الفرنسية ذات التاج التي عبرت الأطلسي قِطعا منفصلة ثم قبعت في تلك الجزيرة لا تملك من أمر نفسها إلا ما ملك “امرؤ القيس” من أمره حين أضعفه مرض الحلة القيصرية فناجى جارته .. كان للمرأة الجامدة الممجدة المدمجة في الديكور الأمريكي النيويوركي، ربما، أنّات كأنّتي أعرابية “الرشيد” مساءً وسحيراً لكثرة ما انتهك جسدها من الزائرين ولِما خار فيها عجل جسد الحرية الأمريكية النطاح الذي أغوى خلقا كثيراً بعيدا عن أمريكا لم يأخذوا منها غير أكل المقليات وخنث آل جاكسون وعضلات “ستالون” وتجشأ 2 باك ..

حين وصلنا لم يسمح لنا بالصعود (داخل “تجويف الحرية”) إذ بدا أن الأمر يرتبط بمواعيد معينة، لكننا جلنا في المكان لنحصل على إطلالة نادرة ل”نيويورك” تجعلها تبدو شريطا شبه طولي على مرمى البصر

كان الوقت في حدود الساعة الثانية ظهراً حين قفلنا راجعين لتلتهمنا شوارع الحي الشطرنجي ذي القطع ناطحة السحاب .. لنذوب في أمم متحدة بشرية لا فصل فيها لعربي عن عجمي ولا لعجمي عن عربي إلا باللكنة .. في تلك اللحظات خطر لي أن أسأل ربي أن ييسر لي مغتسلا ومكانا يبسا في تلك اللجة الخرسانية البشرية الأليكترونية وهو أمر – بمقاييس أهل الدنيا – غير وارد في حال تجوالنا ذاك في جادة “ابرودواي” في أسبوع سيشهد الذكرى السادسة لأحداث سبتمبر. فلربما كانت الصلاة فوق سرير بابا الفاتيكان أسهل وأهون .. لكن لربي في خلقه شؤون.

alt

فاتحت رفيقي في الأمر بجُمل تتبعثر عباراتها فلا تخرج واضحة فأجابني متجاوبا مع غبار كلامي حول وجاهة الفكرة لكن متسائلا عن الكيفية، فيما أبدت الزميلة (التي لم أكن أدرك أنها نصرانية الديانة) امتعاضا من مجرد مناقشة المبدأ ..تمادينا في السير وإذا بي برجل يحمل ملامح الشريط السوداني الممتد من “تمبكتو” إلى “أسمره” (بساطة ومسحة طيبة). ذلك الشريط الذي يشكل “درب تبانة” مجرتنا الإثنية المتشكلة مابين يَبَس “مأرب” وبلَلِ حوافر خيل “عقبة ابن نافع ” على شاطئ المحيط.

قررت أن أسأل الرجل عن مكان لإقامة الصلاة فأجاب بلكنة غرب إفريقية فأردفت معيدا السؤال بالفرنسية – وقد استجمعت رباطة جأشي اللغوية – فأجاب بأن المسجد على بعد مربعين سكنيين تقريبا من مكان وقوفنا!! لم يكن من السهل الأخذ بجدية كلام الرجل لكننا توجهنا حيث أشار خائضين في نقاش هادئ المفردات حاد النبرات مع زميلتنا التي نتفهم سر امتعاضها لكننا نتوقع منها تفهم سبب اهتمامنا بالصلاة. وصلنا فعلا إلى المكان الذي سيجعلني – فيما بعد – أستشعرمعنى جديدا لكون ” … الدنيا مطية الآخرة” ليس بمعنى أن الدنيا مستخدمة للوصول للآخرة فحسب وإنما بمعنى أن المرء إذا أراد الآخرة وجد الدنيا تحت رجليه ..

لم يكن المكان مجرد مصلى بل ومطعما (في الطابق العلوي) ولمن شاء بعد الانتشار من الصلاة أن يتبضع فالمكان به باعة نصف متجولين من بني غرب إفريقيا وتحديدا من الجارة الجنوبية .. فكان أن صلينا الظهر جماعة مكتملة الشروط والأركان ثم خرجنا لتكون لي دردشة بالفرانكو- ولوف مع أحد الباعة .. عرفت أن مقاييس الجغرافيا تكبر وتصغر حسب مؤشر الغربة حتى أني كنت “نزاريا” في حالتي الوجدانية تلك فتماهى لديّ “منزلنا القديم” مع دار “دود سك” في ضاحية “اندر” حتى لكأن الرجل فوق أريكته المعروفة قد جادت قريحته ب”كاف” في “دَزْ امْبرْ” ..

بعدها أصبح المسجد نقطة مرجعية في رحلتنا التي سنسبر فيها ما تيسر من أغوار المدينة المكعبة. فتزودنا بخرائط للمدينة واستخدمنا المترو جيئة وذهاب .. طفنا “مانهاتن” فكانت لنا وقفات في “وول استريت” عند البورصة وعدنا لصلاة المغرب بعد أن اعتلينا سنام المدينة (بعد اختفاء البرجين) أي مبنى “إمباير ستيت” في الشارع 5، لتنتهي الرحلة بالعِشاء والعَشاء الإسلامي الحار (توابلا) حرارة ضيافة مطعم إخوتنا الباكستانيين، لكنه أفضل بكثير من غدائي النباتي الذي لم اشته عند بداية الجولة في مطعم مطل على مكان البرجين المدمرين. تلك الوجبة الاضطرارية (بعد رحلة خواء باصية من واشنطن وقت السحر) التي جعلتني أستغرب مدى تشبع الرأسمالية بالبشاعة فكيف لمطعم يرتاده خلق كثير أن يقام على حافة حفرة تشهد على قتل آلاف من الأبرياء ذات يوم، لكنها أمريكا التي لا تنتهي فيها السلسلة الانتفاعية بالموت بل تمتد إلى ما بعده!

في صباح اليوم التالي، كنا في طريق العودة إلى واشنطن (دي سي) نبتعد رويدا رويدا وتتوارى عن أنظارنا “نيويورك”، ليدخل الراوي بعدها في نوم نصفي لم يقطع شكه بيقينه سوى الجلبة في محطة الباصات في العاصمة الأمريكية لتقلنا سيارة أجرة إلى 1250 جادة “نيوهامشر” حيث مكان إقامتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى