حلقات من “محطات رحلتي إلى الطب” للدكتور”حم” ولد عبدالقادر

الزمان أنفو تنشر لقرائها مقتطفات من كتاب الدكتور محمد ولد عبدالقادر الملقب "حم" ..من 1 إلى 3

الزمان أنفو ـ هذه المقتطفات الممزوجة بالنكات قسمها دكتورنا الأديب “حم” حفظه الله إلى حلقات وسماها “سلع ملع” وهي كناية قلة الحلقة ترغيبا – ربما – في مايأتي من القصة التي تشي بأنها ستكون سيرة ذاتية موثقة جديرة بالقراءة..تحكي عن طريق شاق لطفل أصبح طبيبا وإنسانا ناجحا يشار إليه بالبنان ضمن القلائل الذين جمعوا الكثير من الخصال الحميدة دون ان يؤثر ذلك على نجاحهم في حياتهم وتفوقهم في مهنتهم، وذللوا الصعاب بإرادة قوية وعزيمة لاتلين.. وتتميز بوجود وثائق مهمة ربما تنفض الغبار عن تلافيف ذاكرة البعض من زملاء وأصدقاء الدكتور، ليكتب لنا هو أيضا عن “أطار” مسقط رأسه وعن ولاية آدرار ما يشفي غليل هواة الرواية والقص..مبروك لنا وللدكتور هذا المولود الجديد.

تقديم الدكتور لمذكراته:
فكرت في مناسبات عدة في الموضوع، و في كل مرة اتراجع تحت تأثير صوت خفي، يقول لي : “أنت أثرك عدت لاه اتموت؟ ههه” اطولها بنا و بكم
و في النهاية، قررت، و لم أندم. حين دخلت في هذا التمرين الصعب، بدأت الأحدات “عود اثقب عود”، كل حدث يذكر بالآخر و كل شخص يذكر بآخر.
حصلت في نهاية المطاف على قرابة 200 صفحة من حجم A5، مليئة بأحداث و وقائع، منها المهم و منها دون ذلك، بدأت في “ابطيحت الغبراء” قرب شنقيط، و وادي أمحيرث و حي أغنمريت في أطار حيث المدرسة رقم1 و الثانوية، تلت ذلك سنوات من التيه في داكار، قبل أن تنعرج حياتنا شمالا في اتجاه الجمهورية التونسية: و مدن صفاقس، بنزرت، تونس العاصمة، فالمهدية و أخيرا سوسة.
دخلنا بعدها معترك العمل الميداني في المستشفي الوطني لمدة سنة و نصف، تحولنا بعدها الى مركز السبخة لفترة امتدت عقدا و نصفا من الزمن، كانت فترة تكوين حقيقي، على شتي صنوف أوجه الحياة بحلوها و مرها. غادرت بعدها سلك الوظيفة العمومية، ليس كرها فيها، و لكن “من باب حد اكاد تخمامو وجهدو”.
كل تلك الوقائع معززة بالكثير من وثائق ارشيف، كنت تعودت الإحتفاظ بها (أولاد الكهلات ما يزركو شيء).
هذه المذكرات ستصل بعد شهر و نصف، لكن في إنتظار ذلك، سأبدأ الأسبوع القادم في نشر مقتطفات قصيرة (علي طريقة سلع ملع)، أو كما يقول الفرنسيون
pour vous mettre l’eau à la bouche
ملاحظة أخيرة: لا ابحث عن نفع مادي من وراء هذا العمل، فقد أغناني الله، له الحمد و المنة، و عليه فإن مداخيل هذا العمل ( و لاه لاه اتعود “اكبر من كدها”)، ستساهم في إقتناء سيارة إسعاف لمركزنا الصحي في ابيكه 14، لتسهيل نقل المرضي خاصة الحوامل و الأطفال و مرضي القلب)

1 –
علي بركة الله
نبدأ اليوم بنشر الحلقة الأولي من المذكرات. فقرة مقتضبة، لانها بمثابة “إحماء” بلغة أهل الرياضة ، علي أن تكون القادمات اطول
المحطة الصفر: “ابطيحت الغبره”
في هذه النقطة المنسية و الواقعة بين وادي أمحيرث و مدينة شنقيط التاريخية أبصرت النور في شتاء العام 1968.
كنت أول مولود في الأسرة. تلتني أخت اختطفها الموت مبكرا بسبب أحد أمراض الطفولة التي تحصد كل موسم ما شاء الله من ألأطفال نظرا لسوء التغذية و انعدام التغطية الصحية. لا احتفظ بشيء منها سوى اسمها : فطمة
أسرتنا لا تختلف كثيرا عن مثيلاتها : موسم الكيطنة الصيفي في وادي أمحيرث و باقي العام في ضواحي شنقيط.
يعتمد الاقتصاد علي ما تجنيه الأسرة من تمر في فصل الصيف، يتم تجفيفه و تخزينه حسب طرق تقليدية لاستعماله طيلة باقي السنة أو بيعه والانتفاع بثمنه إن دعت إلى ذلك ضرورة.
جاء موسم جفاف السبعينيات و معه حرب الصحراء ليرغما الكثير من الأسر علي النزوح ثم الاستقرار بمدينة أطار عاصمة ولاية آدرار.

الحلقة الثانية ـ ما قبل التمدرس :

نظرا لظروف الجفاف، انتقلت الأسرة إلى مدينة أطار في العام 1974 حيث اقتنت أرضا في حي أغنمريت من “اتراب ولد مولاي ابراهيم”، مساحتها 15م في 10م بثمن قدره عشرة آلاف أوقية، “بان بها البائع من يد المشتري” و هو مبلغ كبير جدا بالنسبة لتلك الفترة التي كان يباع فيها كيلوغرام اللحم ب 20 أوقية.
بعد ما يلزم من إجراءات ترخيص البناء : الطلب الموجه إلى الحاكم، معاينة المهندس المعماري ثم توقيع حاكم المقاطعة، شيدت الأسرة من الطين بيتا، يشبه في تواضعه جميع بيوت الحي. غرفتان، كبيرة و متوسطة و” مرافق” مع حظيرة للماعز ( كور اكويرات) ونخلة من فصيلة “الحمر” نقلت من منطقة تول البطاح في أمحيرث لتغرس في الركن الشمالي الغربي من البيت.
و بطبيعة الحال، لا ماء و لا كهرباء. بل مصباح (لمبه) يعمل بالبترول ذي الرائحة الكريهة، نقوم بتنظيف زجاجه بعد صلاة العصر يوميا ليضيء ليالينا.
حي أغنمريت، من أهم أحياء المدينة و أعرقها. يقال إن أصل الكلمة بربري و يقال إنها تحريف لكلمة “Camp d’Amérique” الفرنسية. من أبرز معالمه: الثانوية، المدرسة العسكرية، المطار، المنطقة العسكرية الثالثة، مخازن مفوضية الأمن الغذائي، و مقر سكن الحاكم قرب بيوت الضباط الفرنسيين.
في العام 73-74، تم توصيله بشبكة الكهرباء، و تزينت شوارعه بأعمدة إنارة، كنا نلتقي تحتها كل ليلة (سابك ينسقى كسكس) ، نتسابق بالدراجات الهوائية التي كانت تكتري للليلة بستين (60) أوقية من عند “أهل الرالات “: “سمته” و “متشو” و ولد موري أو المرحوم محمد (اللمبه).
كان كل عمود إنارة، يحمل اسم العائلة المقابلة: “داية أكرين “، “داية مينَه”، “داية أهل بولمساك”، “داية أهل كديه” و”داية الهاملة”…. الخ.
النشاط الرياضي الأساسي، هو كرة القدم، كنا منتظمين في “أندية”، يحمل كل واحد منها اسما خاصا، في أغلب الأحيان، اسم سيدة من نساء الحي، مما يعكس بجلاء المكانة التي يوليها أهل الولاية للمرأة. فكان هناك: “أغنمريت الهاملة ” و “أغنمريت الزينة بنت أعل بوبه ” و “أغنمريت القلة بنت بح ” ثم ابنتها “النين بنت عبد الله”. تغمدهن الله برحمته. الفريق الوحيد الذي شذ عن القاعدة هو فريق………

الحلقة الثالثة
ما قبل التمدرس
بدأت تعلم القرآن الكريم علي يدي المرحومتين رقية محمد البخاري أولا ثم فطمة (منت سيد) عبد ولد سيد، قبل أن أتتلمذ علي المرحوم محمد احمتو.
في العام 1975، وصلت سن التمدرس، فظهر تباين كبير في آراء الأسرة حول الموضوع، كان الوالد رحمه الله يريد تربية على الطريقة التقليدية، أي أن أحفظ ما تيسر من القرآن الكريم ثم أدخل سوق العمل، السوق أو”أبجيه ” بلغة أهل أطار. أما الوالدة، رحمها الله، فكانت، ترى على العكس ضرورة الدراسة العصرية.
و بعد تدخل أفراد من الأسرة )بالمعني الواسع(، حصل ما يشبه صلح الحديبية: تتراجع الوالدة عن مشروع التمدرس عاما للزيادة من القرآن الكريم، على أن أدخل المدرسة العصرية العام الموالي.
يتطلب التسجيل في المدرسة استخراج شهادة ميلاد، يصدرها حاكم المقاطعة (قبل ظهور البلديات ثم الحالة المدنية بصيغتها العصرية الحالية)، و يعتمد في ذلك على السجلات الأسرية، حيث يوجد في عاصمة كل مقاطعة سجل باسم كل أسرة من القبائل القاطنة في المنطقة. و لكل أسرة، عميد معروف و معترف به من طرف السلطات، يسجل الأشخاص بناء على شهادة شخصين من أهل البلد. جميع المنحدرين من المقاطعة يسجلون كمولودين في تلك المقاطعة، حتى لو كان مكان ميلادهم الحقيقي، على كوكب المريخ.
كانت الفوضى سيدة الموقف، فتجد شخصا واحدا يحمل عدة شهادات ميلاد بأعمار متفاوتة. يكبر و يصغر حسب الحاجة. و ربما استخرج شهادة وفاة بإحداها إذا اقتضت الضرورة. يعبر عن ذلك بعبارة : “الدكديك كتاب لخلاكه “.
بالنسبة لأسرتنا، كان المرحوم محمد محمود ولد سيد، أحد أعيان مدينة شنقيط، هو من يتولى هذه المهام الإدارية. نبعث إليه برسالة مع أحدى سيارات “ساليمه ولد اسليمان ” أو “محمد ولد بركه ” فيبعث إلينا بالأوراق موقعة و مختومة من طرف الحاكم مع الرحلة الموالية.
استخرج لي شهادة ميلاد بتاريخ 11/06/1975 و بشهادة المرحومين، المغفري ولد المنير و محمد ألأمين (الننين) ولد عبد ولد سيد…………
و أدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح Mohamed Hamma AbdelKade

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى