في حضن “البرابرة”؛ جنوب الجنوب.. ترحل السماء!

alt“.. كل المخلوقات تأتي إلي العالم حاملة معها ذكرى العدالة” كوتزي /”في انتظار البرابرة”  

ـــــــــــــــــــ

بعد إثنىن وأربعين ساعة؛ لحق جسدي ببهو جنوب الجنوب، ومضى مسرعا كمعلقة امرؤ القيس؛ في اكتشاف بلد الأنواء العاتية والأمطار المحيلة  بغير سلاسة أرواح القادمين إلى جلمود يمكث عاليا، معلقا ما بين البسمة الحاضنة ل “مانديلا” والطلقة القاضية لأحفاده.

جنوب افريقيا، جنة استوطنها شياطين لا لون لهم؛ من “لابارتايد” حتى ما بعده، يسود العنف، وكأن لعنة السماء، التي لاتبخل؛ مطرا، على سهول ذاك الجنوب، مصرة على اعتصاره حتى آخر قطرة دم! تحكي ملامحها الدامعة؛ قصة “أميرة”، رمت بها الأقدار في حضن لم تألفه..

تحدوك الرغبة لمجرد الإمعان في عيونها المحطمة، مسح الغبار المتلبد على قدها الذي عبثت به المغامرات العرقية! في المطار يختصر “التاريخ” في صورة مجسمة لمانديلا رافعا كأس العالم؛ لتلحق مباشرة بفتيات عاريات الرؤوس؛ من الشعر، يبقينك في الطابور ساعة كافية لتصور صعود جباههن إلى حيث كان الشعر ذات مرة! المطار بحجم البلد، يعيش مرتادوه على وقع الأسلحة الثقيلة، المتنقلة بممراته، مقدمة باستمرار مشاهد الرعب الضامن الوحيد لاستمرار الحياة.. من محلات تجارية تفوح منها رائحة “الرند”، وشفاه لامعة تحت عيون سكنتها حمرة الخوف واصفرار القلق…

تخرج من المطار، بحيثيات “المطارد” في الأفلام التركية، عاجزا عن تصديق المشهد، الغير لائق، ببلد ثري، جميل، نووي؛ حتى الشارع! في الطريق ما بين “جوهانس بورغ” و”بريتوريا”، تحكي الجسور الشامخة والحدائق المعلقة، والسماء الزرقاء، قصة طبيعة تستمتع بمنح مجاني لأجمل طقوسها! ترحل السماء؛ والوفود بالباص الذي احتضن جزءا من شخيري؛ وإحدى نوافذه عنقي المشرئب نحو خلف يسبقني.. كانت تغني؛ وبارق ابتسامات المضيفين، تبعث لؤلؤا، أومض وما برح ثغور فتية “البافانا”.. التقف عرين أذني مغازلة الربيع، وبوس الندى، ومديح الشوى، ومعاقرة أجساد عجزت أناملي عن ضبط حدودها..

كان شخير إرهاقي، يقطع تلاحق راحتي التي اقتطع جسدي، من قلب رحلتي نحو المجهول! حمل جسدي ذاكرة؛ حوت صولة الأب المؤسس للدولة على شواطئ المرابطين، المختار ولد داداه، لحظة انتزاع أول لجنة على مستوى مجلس الأمن الدولي لمحاربة “الآبارتايد”، والتحكم في مروءة منحت “ميريم  ماكيبا” جوازا أخضر برموز دبلوماسية الجمهورية الإسلامية الموريتانية، يجري العمل به في جميع الأقطار، مع استثناء لذيذ “لإسرائيل وجنوب افريقيا” .. صدح كوكب الصحراء ، ديم بنت آبه: لابرتايد الاستعمار.. تعطيه اطياح امتين”.. وأساطير لاتعد ولاتحصى عن رفض الزعيم “مانديلا” الإسقاط المتطرف للميز العنصري على وضعية أقليات حميرية “سودتها الأمهات”، وجندها المستعمر والعدو والجاهل ضد أمن واستقرار أحفاد امرؤ القيس الذين فقدوا كلما أناله! زفت زغاريد جسدي قدماي على موطن إلهام “كوتزي” ورفعة “مانديلا”.. والشعور باستعادة “أندلسي الحميري”، تملأ روح فنان ضائع؛ تأكد أن الشعر مجرد انعكاس فظيع لفضيحة الحياة.

سبقتني أمتعتي وباقي المرافقين إلى سجن سابق لقصر “الزولو” أيام سيادة “لابرتايد”، أراد المنظمون إقناعنا بأنه أصبح دارا لضيافة الوفود الرسمية.. تزاحم رائحة عرق القهر بأروقته المظلمة، ذوقا باهتا لمعماريين جلبوا من ضواحي “لندن” لرعاية تمكن الميز العنصري الذي صلب الإنسان الأسود على كرباج الزنزانة وتضاريس علف ضيعة خنازير “تنزانيا” البرية! استنفرت كامل حسي الدبلوماسي، على أوفق في إقناع المنظمين؛ أنه بغض النظر عن حاجة جسدي الماسة لرفاه الإقامة، أن رمزية الأشياء جزء من الأبعاد القيمية لأحداث حياتنا النضالية.. وأن نخب شباب القارات الخمس لا يمتلكون لباس تقوى، يحيل زنزانات العنصرية مدرجات لإمتهان الحرية؛ وأن “السجن” لايسع نخبا حضرت لمحاولة التفكير في إعادة صياغة العالم ونتف نبتات الحيف الزاحفة على جنة العدالة والحرية، والسمو على البعد الحيواني اللصيق. أخذت ورفاقي من فندق لنجوم الرياضة مقرا، ومن أحد فتية “البافانا” حارسا مسلحا برشاش أتوماتيكي الطلق، للسهر على حياتنا، حتى داخل الفندق الذي يحظر على زبنائه الخروج من الغرف بعد هبوط الشمس تحت سروال الجنوب المحكم الهبوط. رغم فصول الضياع والهوان التي يتخبط فيها عالمنا العربي؛ لم يفقد الإنسان! يمتلك من النخب النظيفة ما يكفي للنهوض به من ركام استشاطته الحالية، والتي لاتعدوا كونها حالة صحية ستفاجئ الغرب بنتائجها..ستكون مفاجأته أكبر حينما يكتشف أن عينة “وكلاء شرطته” لم يعد لهم مكان في خارطة البلاط العربي المتشكلة من عقود القهر والنهب..لقد احترقت أجيال عدة على مرأى أخرى تستعد لأخذ زمام المبادرة، لتقلع بالعالم العربي حيث يليق بحضارته التي عجز مصممو خرائط “الكلينكس” عن النيل من صميمها!  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد الله حرمة الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى