“الكتابة” بين “استهتار” الاعلام الانتقائي و “شرود” النخبة

altفي الوقت الذي تفتقر فيه ساحة قطرنا المعرفية و الاعلامية إلى الكتابة الجادة، حاجة ملحة، و إلى القراءة المستنيرة، مطلبا أولا، لضعيف منتجنا النصي، يلحظ ارتفاع معتبر لمنسوب قراءة ما تلتقطه صحفنا و مواقعنا من كتابات غيرنا ممن يعالجون قضاياهم لا قضايانا

و يحملون همومهم لا همومنا و يقترحون حلولا لها بعيدا عن ما يلامس الجراحات المثخن بها جسم بلدنا الملقى على حصير المعاناة المزمنة في غياب المستشفى النموذجي الذي يستر في حضنه وبين جدرانه نواقصه و سوأته؛ قراءة مرتفعة للكاتب فلان و الكاتب فلان و فلان… و يتمايل، على إيقاع كتاباتهم و من سكر مضامينها ذات اليمين و ذات الشمال قراء مبهورون بعيدا عن قضايا الوطن الذي ترهقه قترة و هموم المواطن التي تحني ظهره و تمرغ أنفه في أوحال أرضه المصابة بالبوار من جهل و تخلف و انفصام بسرعة الضوء عن مجرة العالم المتحضر.

حقيقة مرة لا يمكن بحال من الاحوال غض الطرف عنها طويلا و لا تجاهلها باستمرار لأنها و ببساطة قاتلة هي التي قيدت الوعي الذي أضحى أهم من الخبز لما يترتب عليه من دواعي الأمن و الأمان و البناء و العدل و الديمقراطية، و مكنت لقوى الظلامية بشقيها المتخلف الأمي و المتعلم الرجعي من التمادي في السفاح الحضاري و استلاب الأمة شرفها و الوطن قوته.

و منذ أيام قليلة عالج الموضوع من جوانب بالغة الأهمية الدكتور محمد الأمين ولد الكتاب في بحث قيم نشره و كانت القراءة التي حظي بها على عدادات المواقع التي نشرته محدودة على الرغم من أهميته و قوة أضوائه الكاشفة تحت عنوان ” الكاتب الموريتاني و التحديات التي تواجهه ” و قد استهله بتعريف لافت للكتابة في مبحث أول أسماه “ماهية الكتابة و بواعثها” جاء فيه أنه يمكن تعريف عملية الكتابة بأنها نشاط ذهني و ممارسة فكرية تتمثل في تسجيل دقيق و تدوين ممنهج يقوم به بعض الرجال و النساء لثمرة تجاربهم و حصيلة مداركهم و خلاصات تأملاتهم و زبدة الاستنتاجات والآراء و الأفكار و الاعتقادات و الرؤى التي تتكون لديهم تبعا لما قد ألموا به من معارف و ما قد اطلعوا عليه من علوم و فنون و ممارسات و أداءات مختلفة و أن عملية الكتابة لا يمكن أن تكون عبثية لا ترمي إلى بلوغ غاية أو تحقيق هدف، بل هي عمل هادف يرمي إلى الوصول إلى غرض محدد سلفا. فالكاتب يتوخى جدوائية و مرد ودية مادية أو معنوية أو روحية من وراء عمله.

و لما أن الأستاذ الجليل و الباحث المتمكن استرسل في البحث علميا و طرق الأبواب التي تأتي متلاحقة تحت وطأة الأكاديمية، إلا أن ما كان من التعريف أعلاه يشكل لوحده سببا للوقوف عند غياب عادة القراءة للنزر القليل الذي يتم حبكه في الساحة “المقيدة” و مواصلة العطاء الذي يتقيد بحمل هم الأمة و مصير الوطن بالقدر المطلوب من الوعي و الحيطة في موازاة عجيبة و مخلة للإدمان على إنتاج الغير خارج دائرة البلد و أحواله، و كأننا نبرر غيابنا و ضعفنا و عجزنا عن مسايرة العالم المتحرك من حولنا بالاعتراف بالآخر و قوته على تحليل أوضاعه و تصور الحلول لمشاكله و دفع أوطانه من خلال مثقفيه و قياداته السياسية و الحاكمة إلى تطبيق هذه الحلول و تثمينها.

أكاد أجزم أن الكتاب الموريتانيين لا يقلون جدارة عن غيرهم و أنهم ملمون أيما إلمام بحيثيات الكتابة، متمكنون من ناصية اللغات التي يكتبون و يعبرون بها و يتمتعون بالقدرة التحليلية المتنورة، و أن إنتاجهم لو قرئ بإمعان في وقته و استغل بما تمليه الحاجة في توه، لغير مجريات الأمور في واقع لا يبرح مكانه و عقلية تفتقر إلى محفزات التحول المنشود، و لساعد على بناء الجسور و مدها فوق بحور الخلافات بكل أنواعها و تشعباتها مما يعاني هذا الوطن ويحتاج للتوافق حول القواسم المشتركة و التكامل داخل فضاء الاختلاف الإيجابي و البناء الذي هو لازمة الاثراء و ضمان استمرار العطاء.

و تواجه الكتابة في موريتانيا تيارين هدامين -على ضعفهما المكشوف- يتقاسمان عن جهل أو تمالئ الوضع النفسي المتردي للكاتب و الهبوط المتواصل لمستوى العطاء النصي الاعلامي و المعالجاتي و البحثي و الاستنتاجي.

· و أما التيار الأول فيتمثل في أصحاب الاستعلاء أو الاستكبار المعرفي و الفكري إلى حد أن رواده يبيتون من الاحكام المسبقة و الانتقادات “الاقصائية” ما لا يجدون معه على الاطلاق إنتاجا سائغا يحمل في بنيته و طياته إن لم يكن إبداعا، أي نوع من المشاركة يثري. و هو التيار الميال إلى الاعتراف بالإنتاج “الوافد” لأنه وحده الذي يلامس، على ما يعتقد أصحابه أو يتصورون، مستوياتهم المتقدمة على أهل بلدهم و مستواهم الذي هو بالكاد قائم في تدنيه. و هو مع ذلك التيار الذي يظل من أوجب واجباته المنوطة بأصحابه، القيام به والحفاظ على المنتج الكتابي و الفكري و الاعلامي و التحسيسي و التوجيهي و التحليلي و ضبطه و تثمينه و تصحيح مساره و دفعه إلى التحسن والاكتمال نصا و جوهرا.

و إن هؤلاء الأقل إنتاجا و أبعد إثراء لساحة معرفية أوجدتهم على هرمها شهاداتهم التي حصدوها، و قد اختاروا أو هم أجبرتهم على النضوب مبكرا ظروف العطاء و الإبداع الصعبة المتطلبة جهدا و عناء و تضحية و نكرانا للذات، فلم يجدوا بدا من الانشغال بالتنغيص و بانتقاد من هم عازمون من أترابهم أو غيرهم ممن هم دون ذلك على بذل كل جهد متاح و ممكن مهما كان قيما أو متواضعا للتقليل من صدمة “الغياب” و الحيلولة دون السقوط في متاهات الفراغ السحيقة.

· و يجد التيار الثاني كل ذاته في انتقائية بعض المواقع الالكترونية و الصحف الورقية و المنابر الإعلامية – إذاعات و قنوات تلفزيونيه موجهة أو غير موجهة، قبلية أو طبقية – على غير هدى .. انتقائية:

ü تنشر للكتاب “المخضرمين”، من منظورهم، أصحاب الأقلام الفريدة و المنتج الرصين المثقل بالفكر و الإبداع،

ü و ترتب بمعرفتها و خبرتها الاستثنائية أصحاب العطاء الدافق و توزع عليهم النياشين و تنشر لهم،

ü و تقصي الأقزام أهل “التأتاة” و “الفضوليين” و “المتطفلين” على موائد الفطاحل العظام لالتقاط بركات فتاتهم و عدواهم.

وإن مرد هذه الانتقائية هو كذلك “استعلائية و ادعائية معرفية تلامسان الاستكبار في احتكار و استئثار لا يستندان إلى أية معايير موضوعية مهنية أو إبداعية – و يتعلق الأمر طبعا بالبعض دون البعض الآخر المتميز بالشمولية و الكفاءة – إلا ما كان بالفعل من ظهور هذه الصحف و هذه المواقع في وقت متقدم من تشكل الطيف الاعلامي عموما بحلته الجديدة البديعة و الالكتروني منه خصوصا في رحابة فضائه الذي كسر الاحتكار و جاء بإضافات نوعية مدت جسور الوعي في كل الاتجاهات و فوق كل الروافد و التيارات الاقصائية الهدامة.

و تبقى الكتابة في كل أحوالها و تجلياتها مطلبا ملحا يحمل على عاتقه كل مسؤولية تدوين الواقع بجزئياته و نشر ديناميكيته و تصحيح مسارات الأمة في سياقه و خلق الوعي المكثف المطلوب لمسايرة العصر و تبوء البلد مكانه الصحيح بعدما ترسو الدولة على قواعد مكينة لا تزعزعها مفاهيم التفرقة بكل أوجهها البغيضة. كما تبقى كل وسائل حمل و نشر ما تجود به قرائح الكتاب على اختلاف مشاربهم و همومهم التي يحملون وتجاربهم التي يعيشون و إثرائهم الذي يستطيعون، مهمة ضرورية و أساسية. و هي بذلك يجب أن تتسم بالانفتاح و سعة الصدر و القدرة على استغلال منتوج الكتاب بما تقتضيه الحاجات إليه دون تمييز أو تحيز أو رغبة في تلميع و تقديم، لأن الكتابة ملك الجميع و القراءة فيها رياضة الكل لاستخلاص أوجه الصحة فيها.

 

الولي ولد سيدي هيبه  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى