أزمتنا المرهقة إلى أين؟

altلقد مثل الحكم العسكري الوبائي المتوالد، أكبر خطر في بلدنا المسكين على حرية الاختيار لدى مواطنيه المغلوبين على أمرهم، وأضحى أمرهم وشأنهم السياسي مخطوفا بامتياز، وأصبحت الثروة في يد بعض الضباط ومن يرضون عنهم من المدنيين، حسب ذوق القرابات والصداقات والتحالفات الهشة.

ولقد أضحت موريتانيا من أكثر الدول عرضة للانقلابات وغياب الاستقرار السياسي، رغم بعض ما فرضه نضال هذا الشعب وعوامل خارجية من هامش حرية ملوث بالحرمان وتعريض حياة المناوئين لخطر التعذيب أو التهجير أو الاعتقال المؤذي.

واليوم لم يعد يحكمنا بعض عقلاء العسكر، وإنما رمتنا الأقدار بضابط غر عنيد، مزاجي شديد الرغبة في المال والتحكم في رقاب الناس ظلما وعدوانا.

إن ولد عبد العزيز، لم يأتي إلى الحكم رغبة من الموريتانيين، وإنما خرج من دائرة الحراسة إلى دائرة الحكم مباشرة، ودون سابق إنذار، بحجة أن حرم معاوية لم تحترمه، أو أن معاوية اختار الانحياز لحرمات زوجه.

إذن هذا لا صلة بواقع دولة، أو مشروع إنقاذ وطن، وإنما جاءت الشعارات بعد ذلك، للحاجة لتبرير وجوده الغريب المستهجن على رأس سلطة موريتانيا العريقة، الثرية بتاريخها ودورها الريادي في نشر اللغة العربية والإسلام في غرب إفريقيا، والثرية بثرواتها المستغلة المستنزفة المنهوبة، والثرية بشعبها المسالم المتسامح، الذي يكره التغيير عبر العنف، ويسعى بالطرق الحضارية النضالية السلمية، للخلاص من أنظمة الاستبداد والاستحواذ.

ومازال ولد عبد العزيز يؤكد ولاءه لطبيعة الحكم العسكري التآمري على حق الشعوب في استقلالية قرارها، فهو مع النظام السوري ضد شعبه، ومع السيسي العسكري الانقلابي الدموي ضد الديمقراطية والانتخابات النزيهة، وهو مع القذافي ضد من انتصروا وكسروا القيود “الجماهيرية”. وقد وقف الراحل “القذافي” داعما 6/6 وتمويل انتخابات2009 لصالح مرشحه عزيز، وصب الأورو صبا، عبر مصرف ولد بوعماتو، وقد كان مبدأ خلافهم –حسب بعض الروايات المطلعة- على ما بقي من ملايين الأورو، الذي حول بأمر القذافي، لصالح نظام ولد عبد العزيز، عن طريق مصرف -تبييض الأموال- البنك العام لموريتانيا.

هؤلاء هم القادة النموذجيون في نظر ولد عبد العزيز، وهو بحماسه لفعالهم يعكس الفراغ الذي يعانيه، في خانة الأخلاق والقيم واحترام حق الشعوب في الحرية والانعتاق والتسيير الشفاف لثرواتها.

وها نحن في موريتانيا في ظل حكم ولد عبد العزيز نسير رويدا رويدا، نحو الهاوية لا قدر الله، فالحكم تخمر منذ 1978، في يد من يقدر على سرقته، بناء على قوته، وليس اختياره وجدارته، والمال تحول إلى جيوب الأقلية، وفق نظام مالي انتقائي عقابي للرافضين لبيع الكرامة، فماذا ننتظر؟.

ولكن المناضلين من أجل القيم والأوطان وتخليصها من قانون الغابة لا يستسلمون مطلقا، مهما كانت الأثمان الباهظة والتضحيات الجسام والمخاطر الجمة، وقد أثبتت ذلك الأيام الخوالي من تاريخ هذا الإنسان على هذا الكوكب، في كل زمان ومكان.

إن عسكرنا الحاكم في أغلب دولنا العربية، وبخاصة موريتانيا، لا يريد أن يتركنا إلا ونحن موتى صرعى في قبورنا، لا حول ولا قوة إلا بالله وكفى.

التعذيب والقتل والحرق والتمثيل في مصر، وفي موريتانيا مصادرة الشأن السياسي وتجويع الشعب، لصالح الأسر المتنفذة سياسيا، من العسكريين والمدنيين المقربين على غير وجه حق.

إنه الضياع المخيف، فهل لهذا الليل من آخر؟!.

وفد مصري باسم الثقافة، ولا ثقافة ولا حياء، يحتقرنا ويضربنا في عقر دارنا، بحجة أنهم هناك أصبحوا وحوشا ضد كل ما هو إسلامي، بتهمة الإرهاب بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، واعتقال وقتل بعض أنصاره.

إن ما يجري في مصر، لا ينبغي أن يحاول نظامنا المساهمة في نقل عدواه إلى كافة البلدان العربية والإفريقية، فهو مجرد انحدار تاريخي مخزي في مصر لدى بعض النخب العسكرية والعلمانية المرتدة عن الديمقراطية ومعايشة الرأي الآخر، فمصر الآن ليست أم الدنيا، وإنما خراب الدنيا والآخرة، إلى أن يرجع إليها صوابها، إنها تتيه في عالم الكراهية ضد المتدينين المروجين للمشروع الإسلامي الصحيح، وتلقي بهم إلى قارعة الظلم والاعتقال العشوائي، وسكوت الغرب واستحسانه مفهوم، وترحيب السعودية والإمارات مفهوم، خوفا من عدوى التغيير الديمقراطي ضد حكم الأمير والمجموعات الماصة لدماء الشعوب وكرامتها وخيراتها، ومحاولة دخول عزيز في اللعبة مفهوم، ربما للحصول على تمويل دسم لاقتراعه الرئاسي المرتقب، أو غير ذلك من شؤم الرأي والتوجه.

ما كان لهذا الوفد المصري الانقلابي الدموي أن يزورنا، حفظنا الله من لوثاته المستهزئة بالدين، والمستسهلة لقتل النفس المؤمنة، وما داموا جاؤوا، فالأولى بهم شيء من الوقار والتكيف مع هامش حريتنا المنتزعة، وإلا فالأجمل بنا في المقابل دفاعا عن ديمقراطية مصر أو أملها في الديمقراطية والحرية، أن نطالب بقطع الصلة بالنظام “السيسي الدموي” الحالي، إلى أن ترجع الأمور إلى نصابها الصحيح.

ها هو طابع “رئيسنا الحالي” توظيف عناصر التطبيع في الوزارة والرئاسة، والترحيب بالأيادي الملوثة بدماء الإسلاميين المصريين، والتناغم مع سوريا القتل والبراميل المتفجرة على رؤوس شعبها الرافض للذل “النصيري” المزمن، والصلة بمافيا تزوير الأموال والعملات الصعبة في افريقيا، وبالخصوص الدولار الأمريكي، والاتهام بالصلة من قبل البعض بالصلة الوثيقة بمافيا المخدرات، حسب ما رفع إلى المحاكم في فرنسا.

فهل من الجدير بشعب موريتانيا -تحت أي ظرف- أن يقبل برئاسة ولد عبد العزيز، وإعادة انتخابه -صدقا أو زورا- في اقتراع 2014 المنتظر.

لن يسلم ولد عبد العزيز من دماء المصريين، لأنه من الواضح دعمه وحماسه المعلن لنظام السيسي وتوجهه الانقلابي والدموي، ولن يبخل بأي جهد في فك العزلة عن النظام العسكري الانقلابي هناك، لأنها باختصار شجرة واحدة ومنبع متجانس المصالح والمصير.

فضعف السيسي في مصر، يعني ضعف نظام عزيز في موريتانيا، وغيرهما من الأنظمة العنفية الأحادية المستبدة بالحكم ومنافعه.

لقد استطاعت المشاركة في انتخابات البلدية والبرلمان عندنا، أن تهز وتحرر بعض القلاع ولو نسبيا، مثل كرو وروصو والطينطان ونواذيبو وغيرها من المدن والقرى، إثر نجاح مرشحين غير مرشحي النظام العزيزي، لكننا اليوم أمام خطر إعادة فبركة انتخاب ولد عبد العزيز في الرئاسيات القادمة، فهل تنجح المعارضة ومختلف القوى الوطنية -الراغبة بإلحاح في تجسيد التغيير السلمي- في الاتفاق على مرشح واحد قوي، ضد فرص نجاح عزيز، ولو كان المرشح الرئاسي التوافقي من خارج السرب الحزبي التقليدي، طلبا لمنع منافسة الأحزاب المعارضة على مقعد الرئاسة.

إن نجاح المعارضة، خصوصا تواصل، في هز بعض قلاع النظام مؤشر قبول لمشروع التغيير لدى الشعب الموريتاني المغبون المحروم من المشاركة في تدبير شأنه السياسي والاقتصادي، ولا ينبغي إغفال هذا المؤشر الإيجابي، مهما كانت نتيجة الرئاسيات القادمة، فالمهم استمرار المشاركة والتضييق على هذا النظام الاستبدادي الفاشل المكروه والمنتهي الصلاحية.

قد يفرض نظام العسكر نجاح مرشحه عزيز، في الدورة الانتخابية القادمة، ولو بصعوبة، ولكن هذه النتيجة المرفوضة شعبيا ستزيد من أزمة النظام وأزمة الوطن، وقد يكون نجاحه سبب الخلاص منه بإذن الله.

فنجاح ولد عبد العزيز، لو حصل لن يزيد الطين إلا بلة، وقد تكون الرئاسيات المنتظرة فرصة للخلاص من النظام المستبد القائم من يدري؟.

ومن المرجح أن تكون فرصة للقوى المعارضة للتقارب والتنسيق، وقد يكون هذا طريق سالك للتغيير السلمي الحضاري المنشود.

لقد آن للعسكر أن يراجع نفسه وحساباته الوطنية، كفى تلاعبا بمصير هذا الوطن وشعبه المظلوم بحق، وآن للتونكراط أن يقلعوا عن النفاق باسم المصالح الشخصية الضيقة، وآن للجميع أن يفكر في حق جميع المواطنين في الحرية والانعتاق والعيش الكريم وتساوي الفرص.

لقد قامت حضارة الغرب، رغم ازدواجية معاييره، على العناية الفائقة الجدية بحقوق شعوبه، فأين نحن رغم مثالية المبادئ الإسلامية، من تجسيد قيم الحرية والعدل.

وللمدافع عن نظام العجز والفشل أن ينظر في كل ساحة ليعلم مدى التدهور والانحدار، في قطاع الصحة، التعليم، التوظيف والأمن، حتى أضحت السرقة شائعة، سواء منتظمة في المكاتب، أو فوضوية في الليل والنهار على البيوت والممتلكات والنفوس، وانتشر القتل والاغتصاب والانتحار، ووصلنا أخيرا إلى الاستهزاء المتكرر بالكتب الدينية وحرمات نبينا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.

إن التفكك المستمر في استقرار الأحوال الاقتصادية وارتفاع الأسعار وتنافر النفوس وانتشار الميوعة والتسيب في صفوف الشباب والنساء وتزايد ظاهرة التسرب المدرسي، وتناقص هيبة الدولة والعلماء ورموز المجتمع، كل هذا ترى يصب في أي تجاه سوى الخطر على منظومتنا الهشة المهددة بالتردي، إن لم تتضافر الجهود الإعلامية والتربوية والسياسية لمحاولة تخليص ما بقي والبناء عليه، للنهوض من جديد بإذن الله.

إن المسافة النسبية بين حزب تواصل ومنسقية المعارضة، قد لا تخدم أمل الخلاص من أزمتنا المرهقة، وقد لا تخدم بوجه خاص التسيير المشترك للبلد في حالة تجاوز مرحلة الاستبداد الراهنة.

فالشراكة يلزم الحرص عليها في أيام العسر والزحام، إلى حين الوصول لمستوى التمهيد للحكم الرشيد الحقيقي بعد هدم صنم الأحادية.

ونحن في فناء دار شورى اللقاء المرتقب في 20 فبراير، حول موضوع الرئاسيات، نرجو أن يتعزز الصف الوطني المعارض للعبة سمسرة الوطن العزيز.

فما كسبت الطبقة السياسية التونسية إلا مع الصبر على الشراكة والتعايش والتنازلات المتبادلة على طاولة حوارهم النموذجي التاريخي، الذي أعطى الأمل في إمكانية تعافي “الربيع العربي” من أزمته الخانقة المستمرة.

لكن الحوار مع نظامنا في أغلب الدورات العلنية والسرية لم يعني إلا استمرار شوكة الاستبداد أو بعض تقاسم العكعكة مع بعض أدعياء المعارضة، فهلا حرصت المعارضة الجادة -إن صح التعبير- على لم صفها وشملها، من أجل الاهتداء إلى طريق جامع للتغلب نهائيا -بإذن الله- على أزمتنا المتنوعة المرهقة فعلا؟!.

بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى