من يوميات مسافر– زيارة أخرى لقرية ” الرش’
عبدالله محمدالفتح

الزمان أنفو _ كانت لنا في هذا الصباح النديّ، زيارة لقرية “الرش” بصحبة “الظاهرة” عبد الفتاح و”الجوهرة السوداء”. لم تعد القرية كما عهدناها؛ تخلّت عن كآبتها القديمة، وارتدت حُلّة من سكينةٍ خضراء وهواءٍ نقي.
مع أول خيوط الفجر، اصطحبنا المضيف إلى المسجد، وهناك، بعد الصلاة، شهدنا لحظة مؤثرة: عناق دامع بين أحد كبار المدعوين وإمام المسجد، بعد فرقة دامت أربعة وخمسين عامًا. ثم شيّعنا الإمام إلى منزل المضيف الجديد شرق القرية، ذلك الذي أطلق عليه اسم “الفتح المبين” وهو بيت أبيض يوجدو ب أقصى شرق القرية.
وكان مدير البروتوكول، كما يسميه إمامنا “المجذوب”، قد أعدّ شاي الصباح، مع خبز ، وزيت الزيتون، وحليب البقر الطازج.
في تلك اللحظات، ارتفع صوت الناقة وهي تحنّ لصغيرها، بينما كان الجزار يستعد لعقر البعير أمام ناظريها. طلب أحدهم من “لكويري” أن يطردها بعيدًا، لكن “الجوهرة السوداء” ظلّ يراقب ويوثّق، كمن يكتب فصلاً من ملحمة رعوية هادئة.
وفي زاويةٍ قصية من الفضاء، كان المضيف يحدّث أخاه بأحاديث عجيبة، تخلّلتها قصة عن سهره الليلة الماضية مع قبيلة من الجن المسلمين، سهروا معه على “الدنكة” المغلّفة بالرخام، في قلب البيت الجنوبي، المُحاط بأشجار “تيشط”، والمطلّ على خزانَي ماء من الإسمنت، شاهديْن صامتين على عبق السنين.
وقبيل الرحيل، كان للسيارة كلمتها؛ إذ غاصت عجلاتها في الرمل، ورفضت مرافقة الجماعة إلى المسجد، كأنها تقول: “دعوني أستريح قليلًا، أحتاج حمامَ رملٍ قبل استئناف الرحلة..تلمسوا الطريق الذي يعج بروثةالبهائم على ضوء هاتف حرون فاقد للتغطية..”. وكان “الظاهرة” يترجم صمتها ضاحكًا، مردفًا: “غدًا ستتجه إلى روصو للتزود بالوقود، وسيرحل الجوهرة السوداء إلى العاصمة”…أحضرت وجبة من المشوي ” كبد وفلكة البعير” وطعموا ، وشربوا،وجرت أحاديث عن تجارب ومسرات الماضي، حين كان الموظف البسيط يعيش في بحبوحة من العيش قبل ان تتضاعف الأسعار وتظل الرواتب ضعيفة رغم الزيادات الطفيفة..واعد “الجوهرة” شايا رائع المذاق بنوعية متوسطة لاتزال مغمورة (20/20)..وبدأت اسياخ الشمس الملتهبة تنزل على القرية..
في تلك اللحظة، علت أصوات البقر والغنم، وتجولت الديكة في ساحات البيوت المتناثرة بين الأشجار… صور لم تتغير، رغم أن الزمن لم يتوقف للحظة منذ أن استنشقنا أنفاس الطبيعة النقية هنا، في أول زيارة لنا إلى هذه القرية.
بقلم: عبدالله محمد الفتح