بنوك مدفونة…../ ديدي ولد امحمد

الزمان إنفو _ شهدت العاصمة نواكشوط خلال أحكام سابقة تمددًا عمرانيًا غير منضبط، خاصة على أطرافها، حيث انتشرت الأحياء العشوائية المعروفة محليًا بـ”الكزرة”، نتيجة انتقال نمط التفكير البدوي إلى الفضاء الحضري. هذا التوسع لم يكن نتاج تخطيط عمراني مدروس، بل جاء كردّ فعل اجتماعي واقتصادي فرضته الهجرة الداخلية وغياب سياسات إسكان واضحة آنذاك.
لكن جذور الأزمة الحضرية تمتد إلى عمق الريف حيث انتشرت ظاهرة “التقري الفوضوي” وهي إقامة تجمعات سكنية عشوائية في مناطق نائية غالبًا دون دراسة أو مبررات تنموية. وقد ساهم هذا التشتت السكاني في إضعاف قدرة الدولة على إيصال الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة إلى قرى متناثرة تفتقر إلى البنية التحتية، مما عمّق من مظاهر التهميش وكرّس الفقر وسرّع وتيرة النزوح نحو المدن.
ويُعزى هذا الواقع في جانب كبير منه، إلى سلوك المجتمع ذاته وإلى سياسات انتخابية ظرفية سعت إلى كسب الولاءات على حساب التنمية، عبر تثبيت السكان في تجمعات عشوائية تفتقر لأي رؤية وطنية شاملة.
وقد أدى هذا التمدد العشوائي في نواكشوط إلى إهدار موارد مالية ضخمة استُثمرت في بناء مساكن فردية على مساحات شاسعة دون أن تواكبها البنية التحتية المناسبة. فقد تم توجيه رؤوس أموال مشبوهة إلى هذا القطاع خارج النظام البنكي تهربًا من الضرائب وتفاديًا للمساءلة وهو ما حرم الاقتصاد الوطني من ضخ مالي كان يمكن أن يُحدث فارقًا في التشغيل وتحريك سوق العمل ودعم الدورة الاقتصادية، تم تجميدها داخل أراضٍ فارغة أو منازل مغلقة، دون أي مردود حقيقي على الاقتصاد أو المجتمع.
ومع تضخم هذا الواقع دخل بعض المستثمرين في القطاع العقاري في متاهات الاحتيال عبر وضع اليد على أراضٍ مملوكة للغير باستخدام إثباتات مشبوهة ووثائق مزورة، ما أدى إلى تفقير عدد كبير من المواطنين، نُزعت أراضيهم دون وجه حق وبلا أي تعويض تحت ضغط التزوير والنفوذ وهكذا وجد المواطن البسيط نفسه في مهبّ الريح.
وعندما أوشكت الأزمة أن تتحول إلى حقل ألغام قانوني واجتماعي، تدخلت الدولة وأعلنت إنشاء وزارة خاصة للإصلاح العقاري، في محاولة لفرز الواقع ومعالجة هذه الفوضى المتجذرة.
اليوم بدأت هذه الوزارة تباشر أعمالها غير أن التحديات ما تزال كبيرة إذ اختلط المتحايل بالبريء والمزور بالضحية، وأصبحت العدالة بحاجة إلى عين فاحصة لا تظلم أحدًا ولا تسمح بالإفلات من الحساب.
لكن هذه الجهود الحكومية تقابلها مقاومة شرسة من جماعات نافذة من ملاك الأراضي ممن راكموا الثروة والنفوذ عبر التحكم في الأرض واستغلالها كأداة للربح والسطوة.
ورغم ذلك لا يزال الأمل قائمًا في أن تنتصر المصلحة العامة على المصالح الضيقة وأن يُكتب لهذا الإصلاح النجاح بما يخدم الوطن والمواطن ويضع أسس تخطيط عمراني وتنموي عادل ومستدام.
توصية أخيرة:
إن الاعتماد على نموذج البناء العمودي- أسمع- من خلال إنشاء عمارات ومجمعات سكنية مخططة، كان ليشكّل حلًا أكثر فاعلية وأقل تكلفة فمقاطعة واحدة في نواكشوط لو خُطط لها بهذا النمط لكانت قادرة على استيعاب آلاف السكان مع ضمان وصول الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم وأمن، بشكل أكثر كفاءة وتنظيمًا. هذا النموذج لا يخفف فقط من الأعباء المالية والبنية التحتية بل يسهم أيضًا في محاصرة التمدد الأفقي العشوائي، وفتح الطريق أمام مدينة أكثر عدلًا واستدامة.