المذكرة الصغيرة
مشهد من الذاكرة:

الزمان أنفو _ كنت أخطو نحو الثالثة عشرة من عمري، أحمل كيسًا من حليب “روز” فيه اثنتا عشرة علبة نصف لتر، متوجهاً إلى واحة “تندوعلي”. الطريق بدت أطول مما هي عليه، تغيب بين الكثبان ولا تمرّ بها غير قلة من السيارات في ذلك الزمن. وعند الوصول، أوصتني سيدة الدار – رحمها الله – أن أتسلق “لمدينة”، لأقطف من ثمرها الأصفر ما يكفيني ريثما يجهز الغداء.
ومن أعلى النخلة، كنت أتأمل البئر القريبة و”بلال” يسحب الدلو الثقيل بـ”أشيلال”، يصب الماء في الحوض ليتوزع عبر “أزلاميز” نحو جذوع النخيل. ثم عدت أدرك دفء الزريبة المظللة بـ”إملي” من جريد وسعف النخيل، حيث الكثافة تقي من وهج القيظ. كان الهواء ممتلئًا بزقزقة العصافير وهديل الحمام، وبوقع “اطياح” التمور المتساقطة بفعل الغربان، وهي تحلّق بين النخلات الطوال “آمنادير”، تنتقي من الثمار أحلاها لتنقره بمنقارها الحاد.
وعلى خرير الماء وضجيج الطيور، انسلّت إلى المشهد حكاية سمعتها ذات يوم: محامٍ باع بئراً لأستاذ، ثم زعم أن الماء لم يكن للبيع… فابتسم الأستاذ وردّ بحكمة أحرجت المحامي، حتى بدا منطق المدرسة أصفى من دهاء المحكمة.
لم أعد أعلم بعدها: أكنت أعيش طفولتي، أم أستعيد القصة، أم أغفو في حلم تختلط فيه الأصوات والصور؟… وفجأة دوّى رنين الهاتف من وسط المذكرة. انقطع الحلم كما ينقطع خيط ماء في “أزلاميز”، وظلّت الكلمات معلّقة تنتظرني… ربما لأعود فأكتب من حيث انتهيت، أو ربما من حيث بدأ الحلم أول مرة.