لغة الأصفاد… و مفردات الضياع / الولي ولد سيدي هيبه

كما أنه لكل فردٍ خريطة جينية خاصة تميزه من الأفراد الآخرين و يدعوها أهل علم الاجتماع الصندوق الأسود لكل إنسان، لما تحتويه من معلومات وراثية خاصة عن الشخص، فإن لكل شعبٍ أيضاً لغة خاصة تحمل مفرداتها ثقافته، وتراثه، وقيمه المادية والمعنوية، وتحدد هويته و تكشف عن ميولاته… و إن أيّ خلل يحدث في الخريطة الجينية والمورثات لدى الفرد يخلق مولوداً غير صحي، مُعوّق ذهنياً وبدنياً، كذلك حال اللغة أيضاً، فأي ضغطٍ أو حظرٍ عليها أو شحن بميت المفردات و سقيمها و الحامل لمثبطات القيم،  يخلق شخصيةً غير مستقرة، وشعبا متوترا اجتماعياً وسيكولوجيا، لأن اللغة  هي مصدر الإبداع ووسيلة للتعبير الثقافي و هي التي تجعل النمو الفكري والوعي والذهنية والعقلية تتطور تطورا سليما؛ الأمر الذي ينشئ بدوره مجتمعاً صحياً، ويؤثر في مستوى التعليم ونتائجه، و الإدارة والأعمال و التسيير و أيضا في مسطرة المعاملات و دفتر المسلكيات كما يؤثر في مصادر المعلومات و المعرفة أيضاً. و لا شك أن مجتمعا… ما زال يعمل بمعجم لغوي موغل في جهالة الظلامية و بالإسراف الشديد في استخدام مفرداته الغابرة، المسكونة بروح الخرافة الطافحة بقوى الشر التي تُستدعى بسوء الطوية لنفث سموم الغل و تحكيم عوامل الظلم في الجماد و العباد… هو مجتمع لا يُنافس في زمن تحدى فيه العقلُ العلمَ ثم آخاه فغير خارطة الوجود بشقيها المادي و المعنوي، كما فتح به للروحيات آفاقا نيرة من الهدي  الرباني من خلال فهم جديد و تبصير بإعجازه المبين متحررين بتاتا من قيود الجمود و القصور. إنها المفردات التي إن قام و صح التأمل فيها مليا، بإرادة نافذة و بتجرد من كل عوامل الترهيب و التقييد التي ضربت بأسوارها المظلمة السميكة على عقول  و إدراك المواطنين في سياق مجتمعي ممنوع من الخروج من نقطته السوداء إلى رحاب مجرة الضياء، لأوحَت بجملة من الملاحظات الهامة و لمَهدت و لو بأقل قدر من المُرضِي طريقا سالكا إلى المساءلة و لفتحت كذلك الباب مشرعا أمام الجرأة الغائبة إلى حيز التصحيح و من قبله إلى الغربلة الشاملة للمنظومات الأخلاقية و التعاملية السائدة في الاستحكام الجامد الذي همش نفوذ التوجيه الديني المستقيم إن لم يكن طوعه لمقاصده في بعض أبعاد التجليات المعتقدية.. و إن في هذا المنحى لمستحق النظر. و لكي يتسنى مثل هذا التحول الذي ترجوه كل جوارح الأمة المعطلة، و لكنها النابضة بروح الأمل في دياجير الاختلال، فإن ما يجب القيام به يتمثل: أولا: في رصد المفردات الشائعة لفظا على غرابتها المطلقة و سوء نسجها من خبائث النفس الأمارة بالسوء و المترجمة عمليا إلى واقع أليم يكبل يوما بعد يوم كل الجهود التي يفرضها واقع الحداثة و يصدح بها صوت الحق و تؤكدها عيون العالم من حول البلد، ثانيا: في وجوب تقييم كل مفردة لاستنباط مغازيها و استجلاء أوجه استخداماتها من حيث الدلالات و الأهداف و النتائج، ثالثا: في إلحاحية لقيام بعمل “تربوي” و “تهذيبي” و “توجيهي في العمق “على كل المستويات و الدرجات والسلم: o       لتخليص المعجم اللغوي العام من عديد المفردات التي تحملُ في الممارسة على القيام بأعمال مشينة دون أيما اكتراث بالعواقب الهدامة كـ”الكزرة” و “اتفكريش” على سبيل المثال، وتبيتُ لمفاهيم خبيثة كانتزاع شيئ بغير وجه حق و تسيير المال العام على غير الوجه المطلوب بجرأة مطلقة و إقصاء الآخر بٍسفاهة المآرب؛ o       و لفك ارتباطها بمفردات مسار البلد في خضم العولمة إن لم يكن ثمة ما يحمل على تحويل مفاهيمها و دلالاتها إلى ما يمكن أن يحتسب داخل الإطار العام لإثراء المنظومة التعبيرية في دائرة اللغة الرصينة الحاملة على رفع مستوى تحضر المواطنين وإعلاء حكم مسطرة الدولة الحديثة و القيم الأخلاقية والتعاملية البينية ومع الدوائر الخارجية.     و إن للمعجم حقا في هذه البلاد من المفردات ما يبرر حكم صفات الانتقائية و الزبونية و المحسوبية و الاتكالية و الوصولية، و هي الآفات متفرقة أو مجتمعة التي تنخر جسم البلد و لا تدعه يتخطى قيد أنملة عتبة الفقر و التخلف… أمراض تتسلل مع أشعة الشمس الأولى من فجر كل يوم و تتغلغل في نفوس لم تكد تبرحها إلا أن تطردها براءة النوم ليناديها من بعدُ إسراف اليقظة المحموم. لا إدارة و لا مؤسسة تخلو من تفاعل هذه الشوائب، و لا تسلم معاملة من تأثيراتها الجانبية إن لم تكن المباشرة تبعا للظروف الحاصلة و مقدرات المكان و الزمان. و إن بها، آفات خسيسة، قد اعتلى الظلمُ صهوةَ الواقع المرير و استوطن حيز الظل من تحت كل جناح إلى أن بات الجميع، من قاعدة الهرم إلى قمته، يظلِمُ كلما أتاحت له الظروف ذلك تسلطا أو انتقاما أو دفعا واتقاء لظلم الآخر.. و لما لم يكن القتل و الاعتداء البدني أو اللفظي الحاد حتى، عادة متبعة و لا عقلية محببة – في مفارقة عجيبة مع أنماط المسلكيات في مجتمعات أخرى بفضل المعتقد الإسلامي الذي يحرم النفس البشرية – فإن كل أمر دون ذلك مهما عظم شأنه مقبول و مباح في ساحة و معترك الحياة التي ودعت كل فضيلة و أذابت كل خلق حميد في غياهب مقاصد السلطة و الجاه.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى