حديث السبت: النزيف الطائفي وشهوة الدم

alt“والّذي حارَتِ البَرِيّةُ فِيهِ حَيَوَانٌ مُسْتَحْدَثٌ مِن جَمادِ” أبو العلاء المعري ـ1ـ كان ذلك أواسط التسعينات. وكانت حرب البوسنة و، بشكل أعم، حروب تفكّك يوغسلافيا في أوجها. احتدم النقاش كالعادة حول أسباب هذه الحروب، وحول وقودها الطائفي المفترض. لفتتْ انتباهي خلال ذلك النقاش العابر ملاحظة مقتضبة قدّمها بهدوء وألم أستاذ رياضيات سبعيني عاش أغلب حياته بين أوربا الوسطى وأوربا الشرقية. قال إن ما يبدو حريا بالاهتمام بالنسبة له ليس العامل الطائفي وإنما ما اعتبره نزوة اقتتال كامنة في البشر. وحين تستيقظ دوريا فإنهم يجدون دائما الذرائع الكافية لإراقة دماء بعضهم البعض. والطائفية ليست في نظره إلا إحدى هذه الذرائع التي يتمّ استنفارها عند الحاجة. ـ2ـ في دراسة أصدرها سنة 2008 المعهد الفنلندي للشؤون الدولية تحت عنوان “الهويات الطائفية أو الجغرافيا السياسية؟” تلخّص الباحثة ماري ليومي  ـ في مقاربتها لاحتدام الصراع الطائفي في الشرق الأوسط بعد تدمير العراق ـ بعض الملاحظات المركزية التي ظلّ عدد من الباحثين السياسيين والمؤرخين المهتمين بالموضوع يلحون عليها. أهمّ هذه الملاحظات هي من جهة أن ثنائية الشيعة والسنة في الواقع ثنائية لا تاريخية في معناها السياسي المتداول حاليا. لها جذور في “الماضي” المستنفر أكثر بكثير مما لها جذور في التاريخ بالمعنى الحصري. ومن جهة ثانية فإن الدور الذي يُفترض أن هذه الثنائية تلعبه الآن في صراعات الشرق الأوسط هو ثمرة نظرة بنائية محافظة للتاريخ تتم فيها إعادة بناء “المعطيات” وفق الصراعات الآنية. فالفاعلون الدوليون والاقليميون (الولايات المتحدة، الدول العربية المشرقية، إيران، إلخ) “تبني” وتستثمر هذه الثنائية كنبوءة متحققة ذاتيا. بعبارة أخرى فإن تاريخ التعدد الديني والمذهبي في المنطقة لا يمكن أن يفسِّر بذاته ولذاته الثنائيات المستثمرة راهنيا. وإنما الصراعات القائمة هي التي تنتقي أو “تخلق” عناصر “الذاكرة” الجماعية المناسبة،  أي أنها تستنفر الماضي الأسطوري الأكثر قابلية للتوظيف في الصراعات الحالية. ـ3ـ يسود في جزء من الفلسفة السياسية الراهنة الاعتقاد أن المنظومات السياسية الماقبل حديثة تتأسس في شرعيتها على قاعدة أسطورية. فمثلا يلحّ الفيلسوف جان لك نانسي (“الفعل المؤسس المستحيل”، 2006) على أن مشكلة قيام الاتحاد الأوربي كفضاء سياسي تكمن في كونه مشروعا حديثا. وأنه بذلك لا يتمتع بشرعية أسطورية مؤسسة صلبة. فالمنظومات الماقبل حديثة تقف في تصوره على سردية أسطورية تمتلك قوة إقناعية ذاتية ويتم نقلها من جيل إلى جيل دون أي شعور بالحاجة إلى نظرة نقدية. وهو بالنسبة له ما لم يعد الإنسان الحديث قادرا عليه. ولكن هنالك نقطة لا يبدو أن هذا الاعتقاد السائد حاليا اعتنى بها كثيرا رغم حضورها الكبير لدى آخرين خصوصا ممن اهتموا بتحليل النازية والفاشية كمنتوج إيديولوجي حديث (من “فالتير بنيامين” إلى “حنا أرندت”). يتعلق الأمر بما يعتبره بنيامين الأسس الأسطورية والعنفية التي تقف عليها المنظومات السياسية المعاصرة وتحاول أن تخفيها. صحيح أن الفلسفة السياسية بشكل عام تعتبر أن الشرعية السياسية تتوكأ غالبا ـ قديما وحديثا ـ على مستوى من الأسطورية السياسية تمتاح أحيانا من الرؤية الخرافية. وتستدعي تبعا لذلك قراءة ما للتاريخ. فكل قراءة هي بدرجة ما انتقاء وإعادة صياغة ولكن في حدود معينة. ـ4ـ كيف يمكن في هذا الأفق أن ننظر إلى الصراع الحالي في الشرق الأوسط ؟ فهو غير معني أصلا بالتاريخ أوبقراءته كتاريخ ولكنه معني بالماضي. التاريخ كـ”حمال أوجه” لا يفيد كثيرا الأحادية السياسية السائدة لدى دعاة الصراع الطائفي. يلزم من منظورهم أن لا يحمل التاريخ إلا وجها واحدا يتناسب مع الغايات التعبوية الظرفية. فالصراع الطائفي معني ببناء سردية للماضي يتوكأ عليها عبر تكثيف جوانبها الأكثر إيغالا في الخرافية الظلامية. إنه في الخلاصة معني بتجاهل/جهل التاريخ لصالح الاغتراب في ماض متوّهم. وهو بهذا المعنى توظيف “حداثي” للرؤية الخرافية، على النمط النازي. نفهم في هذا السياق أن تكون وسائل الإعلام الحالية، من الفضائيات إلى وسائل التواصل الاجتماعي، هي الحليفة الأكثر نجاعة لهذا الاغتراب ولهذا الإيغال في الخرافية. ذلك أنها بداهة مبنية في فاعليتها على القدرة على تحييد معطيات الواقع لصالح الوقْع. مبنية على القدرة على شلّ الحس النقدي لصالح وقْع الصورة والنبرة، وقْع الأداة والمؤدى. ـ5ـ      كَـتبَ إليَ تعليقا على حديث السبت” الماضي أستاذ مغاربي متميز يقيم منذ فترة في الخليج الملاحظة التالية التي تختصر في نظري جزءا كبيرا من المشهد: ” التقارب العربي الإيراني هو بالتأكيد خطوة ضرورية من أجل وقف النزيف الطائفي الحالي المدمّر للطرفين ولكنه، يبدو مشروطا بجعل رؤية العالم لدى شعوب المنطقة تقف على قدميها، فهي الآن واقفة على رأسها، أي أنها لاتنظر إلا إلى الماضي، مسكونة به، تعيش فيه وبه، وتفسر كل شيء في سياقه، ولاتنظر أبدا إلى المستقبل، ولاتفكر فيه، إلا على أنه صورة طبق الأصل لماض اختفت من لوحته النقاط المضيئة، وتضخمت فيها النقاط السلبية فطغت على غيرها، وما دامت رؤية العالم مقلوبة بهذه الصيغة، فمن الصعوبة فتح بوابة تخرج منها المنطقة من دوامة النزيف الطائفي وعقابيلها إلى بر النجاة، والله غالب على أمره، ولكل أجل كتاب.” * مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى