ماذا جنينا من سجن هؤلاء/الخليل النحوي

altمن المفروض أن تكون للقضاء سلطته وهيبته واستقلاله، ومن المفروض أن يكون جميع الناس سواسية أمام القضاء، غنيهم وفقيرهم، صغيرهم وكبيرهم. ومن هذا المنطلق يفترض ألا يتدخل أي شخص أيا كان في سير عمليات التقاضي، إلا ما كان من نجوى لإصلاح ذات البين {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.

من هذا الباب أدخل، لأذكر بأن أعلى سلطة مرجعية في القضاء النظامي عندنا كانت قد زكت بيراما بن اعبيدي تزكية ما وراءها تزكية حين اعتبرته مؤهلا لقيادة البلد وقبلت ملف ترشحه للرئاسيات، والحال أن مقولاته ومواقفه وتصرفاته قبل ترشحه ذلك لم تكن أقل حدة أو جرأة من تلك التي اعتبرت، من بعد، سببا لإيقافه ومحاكمته. وتلك مفارقة لا تخدم سمعتنا. ثم إنه من المثير للقلق، في نظري، أن نعتمد مقاربات أمنية ونلجأ إلى مساطر قضائية نمارس بها تنزيلا ميكانيكا لبعض النصوص على بعض الوقائع، دون أن نولي اعتبارا ذا بال للمقاصد والمآلات، أو لتجارب التاريخ وعبره أو لدروس الجغرافيا المتحركة رغم ما نتوهمه من ثباتها. حبذا لو سألنا أنفسنا اليوم: ما الذي جنيناه من اعتقال بعض إخوتنا وأبنائنا الذين تحركهم مشارب وتوجهات فكرية ليس الضغط والإكراه أفضل الوسائل لمعالجتها. ماذا جنينا مثلا من سجن بيراما وإخوانه غير أننا ساهمنا، مرة أخرى، في جعله أشهر شخصية موريتانية على الإطلاق في الغرب اليوم؟ ولقائل أن يقول “الصحة”! فليست تلك هي المشكلة. لكن ما عسانا نقول إذا نحن قرأنا بقية المشهد؟ ألم نساهم بالقدر ذاته، وبملء إرادتنا، في جعل بلدنا، بحق أو بباطل، واحدا من أسوأ البلدان سمعة في الغرب؟ وأي غنيمة لنا في ذلك، خصوصا إذا كانت هذه الغنيمة هي أن يوصم المجتمع كله أو جله بأنه مجتمع استرقاقي؟ لا أعتقد أن لنا كبير مصلحة في تحقيق هذا النوع من “المكاسب”، وأفترض أن يكون بيراما وأي مناضل حقوقي صادق غير سعيد بأن تكون شهرته رديفا لسوء سمعة بلده على هذا النحو، فما مدح من ذم قومه، خصوصا إذا أخذت الصورة بعدا أكبر من بعد الحقيقة أو اختزل المشهد كله في جانب من جوانبه، أو كان ثمة احتمال لتوظيف المشهد على نحو لا يخدم البلد، ولا يفتح أمام المستضعفين فيه آفاق الكرامة والأمن والاستقرار. ينبغي ألا يغيب عنا جميعا – ولا عن رموز النضال الاجتماعي والحقوقي خصوصا – أن سوء سمعة البلد (أو حتى النظام) وشهرة بعض مواطنيه في ملف حقوقي كهذا الملف قد يكون، من حيث لا نريد، وربما من حيث لا يريد بيراما نفسه وغيره من مناضلي الحق الاجتماعي، ذريعة للكيد لبلدنا والسعي للوقيعة بين أبنائه، وتعريض سلمه المجتمعي لمزيد من الأخطار، وحينئذ سيكون مثلنا جميعا – لا قدر اللـه – مثل المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، ولن يكون ثمة رابح. وبطبيعة الحال، فإن المسئولية اليوم تقع في المقام الأول على أولئك الموجودين خارج السجن، حكاما ومحكومين، غير أن لبيراما ورفاقه دورا كبيرا ينهضون به في ترشيد النضال الاجتماعي، لا بالنكوص ولا بالمداهنة، وإنما بتفويت أي فرصة قد تستغل لاتخاذ هذا النضال المشروع مطية لزيادة الصدع وتعميق الشرخ، وبحشد المزيد من قوى التغيير الراشد داخل البلد، فحشد بضعة آلاف، بل بضع مئات، من المناضلين الصادقين، من مختلف شرائح مجتمعنا، أجدى وأنفع في حل مشاكلنا وعلاج أمراضنا الاجتماعية من تعبئة الملايين في الغرب؛ الملايين الذين عبأناهم نحن، أكثر مما عبأهم بيراما، حين أعنا الشيطان على أخينا؛ حين لم نبذل ما يكفي من الجهد لمعالجة المظالم الاجتماعية وحين لم ننتهج السبيل الأقوم للتعامل مع أولئك الذين سبقونا فنذروا أنفسهم للنضال الاجتماعي. قد لا أتفق مع بيراما في بعض المواقف والتصرفات، وقد أخالفه في تقييم بعض الشخصيات، كما أخالفه في استخدام بعض التعابير، وهذا ما كنت صارحته به من قبل، لكنني أتوق إلى أن أراه ورفاقه أحرارا طلقاء، آمنين في بلدهم، عاملين من أجل إصلاح أوضاعه وتعزيز لحمته، وأتفق معه ومعهم بصدق في الدعوة إلى معالجة المظالم الاجتماعية وإرساء أسس العدل الاجتماعي، والسعي الجاد لبناء مجتمع لا استرقاق فيه ولا ميز ولا غبن ولا حيف ولا تهميش. وأحسب أن بيراما الذي أكد تمسكه بالنضال السلمي، والذي فضل مؤخرا توجيه أبنائه وأبناء عدد من رفاقه إلى التوسع في دراسة القرآن الكريم والعلوم الشرعية، قد طور من خطابه، وهو قادر على أن يطوره أكثر في المستقبل، ليكون خطاب استنفار، لا خطاب تنفير؛ خطابا يستنهض جميع فئات المجتمع من أجل تحقيق الهدف الذي يصبو إليه كل مواطن مخلص، هدف الانعتاق والوئام المجتمعي. وبالمقابل، أعتقد أننا جميعا سنربح أكثر إذا تعاملنا مع مناضلي الانعتاق بأساليب أخرى، فأحسنا الإصغاء إليهم، ووضعنا أيدينا في أيديهم، وجعلنا نضالهم نضالا لنا جميعا، وعملنا معا من أجل الوصول إلى كلمة سواء، ندور بها مع الحق حيث دار، ونكون بها يدا واحدة على الظالم أيا كان، مهتدين بمنهج النبوة في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وإصلاح ذات البين، ونصرة المظلوم، والتعاون على البر والتقوى. *** ذلك منهج صالح أيضا للتعامل مع كل حملة الفكر الذين يحاولون بناء أنساق ذهنية مجافية لما هو سائد عندنا، ومنهم إخوتنا الذين حملتهم حماستهم الدينية على اعتماد مقاربات ورؤى غير نمطية، صادمة أحيانا. مواجهة هؤلاء بالإكراه البدني وحده توشك أن تكون مواجهة عبثية. نعم، ثمة شرارات توشك أن تتحول إلى حرائق، لا قدر اللـه، إذا نحن لم نبادر بإطفائها، ولكن علينا أن ننتبه جيدا، ونتخير أدوات الإطفاء حتى لا نكون ممن يسعون إلى “إطفاء النار بالزيت”.

 

http://taqadoumy.com/?p=7925

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى