ثورة موريتانيا الأعماق/ سيدي علي بلعمش

هناك الآن موضوعان يحتلان واجهة الحياة في البلد، يستدعيان قراءة متأنية من زوايا مغايرة، لاستثنائيتهما و تعقيدهما و مغايرة خلفياتهما لما يطفو على الواجهة الكاذبة. و هما أزمة تازيازت و أزمة الشيوخ أو أزمة موريتانيا الأعماق بتعبير أدق و أصح.



1 ـ أزمة تازيازت :


ـ يعتقد الكثيرون اليوم أن قرار النظام باتخاذ الحياد في أزمة الشركة مع عمالها ، ينبع من روح إنصاف وطنية، لا يتساءلون منذ متى كانت من سلوك ولد عبد العزيز.


ـ و يعتقد الكثيرون، أن شركة تازيازت خسرت أموالا ضخمة بسبب هذا الإضراب و أصبحت مصالحها مهددة في البلد..



هذه مغالطات تطفو على سطح الحقيقة ، لا يدرك عمال تازيازت أنهم ضحيتها من الطرفين.
لا علاقة لأي من ما نراه على الواجهة اليوم بحقيقة ما يحدث في الكواليس.



لقد أصبح باستطاعتنا الآن أن نكشف عن الحقيقة لأنها ـ تماما مثل أزمة الشيوخ ـ وصلت مرحلة لا يجدي معها أي تراجع:


ستتعرض شركة تازيازت حتما لغرامات مالية كبيرة إثر تقرير الرشاوى الأمريكي . و ما تقوم به الشركة الآن مشابه بالضبط لما حصل في قضية البنك الوطني الفرنسي مع إيران الذي خفضت غرامته من 10 مليارات أورو إلى 7 مليارات، نتيجة تعاون البنك مع المحققين و تزويدهم بكل المعلومات و هو أمر مشروع تنص عليه مواد قانونية واضحة في النظام المؤسس لجهة التحقيق الأمريكية. و لكي تثبت للمحققين صدق ما أعطتهم من معلومات و أسباب تقديمها رشاوى للعصابة الحاكمة في موريتانيا، قالت لهم الشركة سننهي التعامل مع عصابة عزيز الفاسدة و سترون كيف سيعرقلون كل أعمالنا و يضربون مصالحنا.


و حين أوقفت الشركة تلك الامتيازات، بدأت العصابة تضغط عليهم ؛ فمنذ متى كان النظام الموريتاني يقف بحياد بين العمال و مغتصبي حقوقهم؟ و لماذا لم تنتهج السلطة هذا الحياد مع عمال “اسنيم” و عمال البلدية و بحارة نواذيبو و عمال ميناء نواكشوط؟


و مخطئ من يعتقد أن شركة تازيازت بدورها تخسر بسبب هذا الإضراب بل هي أكبر مستفيد منه لأنها أثبتت للمحققين من خلاله أن وسيلتها الوحيدة لحماية مصالحها في البلد هي أن تظل تقدم الرشاوى لرأس النظام. و بعدما تثبت الشركة للمحققين صدق كلامها عن هذه العصابة ، ستتقدم ببعض التنازلات للعمال و تحل المشكلة معهم أو تغلق أبوابها و تقاضي النظام الموريتاني في محاكم دولية و بأدلة دامغة لا قبل له بمواجهتها.


و لأن مآل التحقيق إلى محكمة دولية في كل الحالات، سترون في النهاية أن جشع ولد عبد العزيز و أقاربه أدخلهم مآزق لن يعرفوا كيف يخرجون منها..



2 ـ أزمة الشيوخ :

    ـ لقد نسي ولد عبد العزيز أن موريتانيا الأعماق تحكمها معادلات معقدة، على أساسها يتم توزيع البلديات و النواب و الشيوخ على القبائل، ضمن توازنات عرجاء خلقتها الديمقراطية الشكلية و حمتها الأنظمة الفاشلة، لصالح وجاهات غير وجيهة ، على حساب الكفاءة و الأحقية.


أزمة الشيوخ اليوم تجاوزت مرحلة الحلول التوافقية: الشيوخ لوبيات مصالح أفرزتهم نمطية سياسية ترفض تحمل مسؤوليتها اتجاه الوطن، بما يعني أن سكوتهم اليوم عن فشل النظام السياسي برمته، برئاسته و برلمانه و بلدياته و قضائه و أحزابه و صحافته، حالة مؤقتة، ترتسم بوضح من تلقاء ذاتها. لم يكن ولد عبد العزيز مقنعا في أسباب إلغاء مجلس الشيوخ و لم يكن حزبه و حكومته أفضل من يتولى تسويق القرار لأنهما بكل بساطة نسيا أنهما أسوأ منه بكثير و أفسد منه بكثير و أقل فائدة منه بكثير.


لقد وضعت هذه الأسباب المجلس أمام خيارين لا ثالث لهما :

 
ـ أن يضحوا بمصالحهم و سمعتهم ليبرر ولد عبد العزيز أسباب فشل نظامه بفشكلهم، ليس إلا.


ـ أن يدافعوا عن مصالحهم و سمعتهم التي يكفيها سوء أنها جزء من سمعة نظام عزيز المفلس في كل جوانبه.


و لأنه لا معنى ـ كأصحاب مصالح في منظومة بلا ضوابط ـ لتضحيتهم من أجل سواد عيون ولد عبد العزيز. و لأن لسان حالهم يقول “على من فجر الأزمة أن يتحمل مسؤولية مآلاتها”. و لأنهم جميعا يدركون غدر ولد عبد العزيز و يعون جميعا أن الانضباط الحزبي المسوق لهم اليوم لا يؤمن به أي منتسب إليه و لا يتجاوز كونه باطلا أريد به باطل، لا أنتظر شخصيا أن يكون هناك أي تراجع من قبلهم لصالح من تجاوزوا كل الخطوط الحمراء في حقهم دون أبسط وجه حق.


 فأين كان انضباط الحزب حين تهجم قادته بأقل قدر من تحفظ، على أداء المجلس لمجرد أن ولد عبد العزيز وعد بحله؟


 و إذا كانت هذه هي قناعة الحزب و الحكومة، لماذا لم يعلنوا عنها من قبل أن يتكلم عنها ولد عبد العزيز؟


 هذا النفاق السياسي لا بد أن يكون قاتلا حين يحدث داخل خيمة تشد كل أطرافها أوتاد النفاق.


 و ما يحدث الآن في البرلمان ليس أقل خطورة مما يحدث في مجلس الشيوخ (الثور الأبيض).

 
 فلأن ولد عبد العزيز يستطيع حل البرلمان و حل الحكومة و حل الحزب لكنه لا يستطيع حل مجلس الشيوخ (لأن ذلك يتطلب موافقة ثلثيه في تصويت سري و هو أمر لا ينتظر حدوثه إلا غبي)، أراد أن يستعين بالجميع لحل مجلس الشيوخ و بعدها يحل البلمان؛ هذا الأمر لا يحتاج إلى تحليل و لا حذاقة لأنه منصوص و مفصل في القوانين.

 
و ما يعقد الأمر اليوم ، هو أن جماعة مجلس الشيوخ ليست “منتدى المعارضة”: فهم مدركون جيدا أن ولد محم لا يقود الحزب و ولد حدمين ليس رئيس وزراء و ولد داداه ليس وزير عدل و ولد أجاي ليس وزير مالية. هذه هي المشكلة الحقيقية التي تعقد كل حل.

 
و على ولد عبد العزيز الآن أن يختار بين حلين :


ـ أن يكابر و يتمسك بقراره الجاهل، ليسقطه مجلس الشيوخ في النهاية مع احتمال عصيان مماثل من البرلمان و أطراف موالاة أخرى أفرزها تخلخل النظام و ارتباك قراراته و تداعيات انهزامه السياسي في الداخل و الخارج.


ـ أو يذعن لمطالب الشيوخ، مودعا التحكم في القرار السيادي في البلد؛ لأن معارك “ارتداد الكيد في النحر” لا يمكن أن تخرجها إلا منتصرا أو مهزوما.

  
باستطاعة مجلس الشيوخ اليوم أن يكفر عن ثمان سنين من الخنوع المخجل .. من العار المخزي و التبعية العمياء لنظام فاسد و شاذ في سلوكه.. شاذ في تركيبته .. شاذ في توجهاته.. شاذ في تخبطه، و محكوم عليه في النهاية ـ مهما حصل ـ بالوقوف ذليلا أمام القضاء ليكون عبرة لمن يعتبر.


نحن نعي جيدا أن “الأغلبية” متمردة بكل أطرافها (حزبها و حكومتها و برلمانها و شيوخها و شبابها و نساؤها ) منذ فترة طويلة:

 
ـ من يملك بقية ضمير من الأغلبية لا يرضى بأن يواصل في تدمير بلده بهذه الطريقة المؤلمة (كوري، بيظاني، حرطاني، عربي ، زاوي) التي يلعب عليها ولد عبد العزيز منذ وصوله الحكم و التي ينبذها كل صاحب ضمير و كل عاقل..


ـ من لا ضمير له لا يريد أن يظل ولد عبد العزيز يستغله في نهب البلد و يستثنيه من الفائدة ..


ـ شيوخ القبائل و الأعيان تم تدمير أبهتهم في عيون الناس و أصبح ولد عبد العزيز يستغلهم و يجردهم في نفس الوقت من نفوذهم..


ـ العلماء حولهم إلى شهود زور و موضع سخرية في مجالس العامية و مواقع التفاعل الاجتماعي..

 
ـ المثقفون حولهم إلى ببغاوات يتندر بهم الجميع..


ـ الجيش مذل أكثر من المعارضة و من العامية؛ عبث ولد عبد العزيز و طغمته الفاسدة الحقيرة ، بهرمية الأوامر و الرتب ليصبح الملازم يقود العقيد و قائد الوحدة يخاف من سائقه .. القيادة العامة للجيش تتلقى الأوامر من كلاب “بازيب” .. مخازن السلاح بيد فرق خاصة لا تصرفها إلا بأوامر مباشرة من ولد عبد العزيز .. ولد احريطاني يكون ميليشيات من دون علم الجيش و يبرم صفقات تكوين و تسليح مع البرازيل من دون علمه.. تكيبر تصدر الأوامر لكبار قادة الجيش من جنرالات الباكوتي .. الأمن تم إذلاله لتصبح فرقة مسقارو المكونة من شواذ المجتمع و منحرفيه و جهلته، تهين القضاة في الشوارع و تضرب الضباط و تعتدي على المواطنين و تذلهم أمام أعين المارة .. كل صلاحيات وزارة الداخلية تم تسليمها قهرا لسلحفاة سخيفة يتنازعها الجهل و الغباء ليصبح دخل إدارة أمربيه أكبر من دخل ولد أجاي و الجمارك و اسنيم و الصيد.. نسبة دخل ولد عبد العزيز اليوم من كازوال أكبر من نسبة دخل أي بلد مصدر للنفط ..


أغبى الناس اليوم، هو من يعتقد أن “الأغلبية” يمكن أن تكون راضية عن احتقار ولد عبد العزيز لها.

 
و ينسى الكثيرون أن “الأغلبية” حتى لو كانت بلا ضمائر، هي أحرس الناس على استقرار البلد لأن أي فوضى و أي انفلات أمني يهدد مصالحها أكثر من الجميع.


و يخطئ من يعتقد أن خطاب النعمة هو الذي خلق هذه الأزمة و يخطئ أكثر من يعتقد أن تراجع ولد عبد العزيز عن حل مجلس الشيوخ ، سيحل القضية: الأزمة تتفاقم منذ زمن بعيد و لا يمكن أن تنتهي إلا بانتهاء أسبابها و سببها الوحيد هو وجود ولد عبد العزيز على كرسي الحكم، لأنه هو محورها و بقاؤه هو بقاؤها. و سواء حسمت الآن أو غدا أو بعد شهور ، لن تنتهي إلا بنهاية ولد عبد العزيز: لقد أصبح ولد عبد العزيز ـ كما توقعنا و صرخنا منذ البداية ـ يشكل خطرا على الوحدة الوطنية.. يشكل خطرا على التعايش السلمي.. يشكل خطرا على الاقتصاد.. يشكل خطرا على الأخلاق.. يشكل خطرا على الهوية الوطنية.. يشكل خطرا على الدين الإسلامي.. يشكل خطرا على الجيش.. يشكل خطرا على الأمن.. يشكل خطرا على القضاء.. يشكل خطرا على الدستور.. يشكل خطرا على الشيوخ.. يشكل خطرا على النواب.. يشكل خطرا على العمد.. يشكل خطرا على الحزب…


و كان من الواضح ـ منذ فترة طويلة ـ أن هذه الأزمة الصامتة لا بد يوما أن تنفجر و ستتفاجؤون حتما بأن أطراف كثيرة أخرى من “الأغلبية” ستلتحق قريبا بهذا العصيان، ما كان أحد يتوقع أن تنضم إليه لأن من ينظر بعين فاحصة إلى ما يحدث على الأرض، يلاحظ حتما بأن الازمة أعمق و أخطر بكثير مما يطفو على واجهة الأحداث اليوم.


غبي من يعتقد أن “أغلبية” من هوامير المال العام و النفوذ الاجتماعي، فرضت نفسها على واجهة المشهد السياسي منذ قيام الدولة، سيظل ولد عبد العزيز يهددها بولد أجاي و يمزقها بولد محم  و يدوس كبرياءها بولد حدمين..


و لم يكن من الغريب أن تنفجر الأزمة في هذا الوقت بالذات، فمن ينظر بتمعن في المشهد، يجد أن ولد عبد العزيز بدأ حكمه ب”أغلبية موريتانيا الأعماق” و ظل يتخلص منها شيئا فشيئا ـ مرددا أغنية تجديد الطبقة السياسية ـ حتى أصبح يحكم اليوم بطبقة من الجهلة المنبوذين من الجميع، بلا عمق اجتماعي و لا عمق ثقافي و لا عمق أخلاقي، فكان لا بد لموجة الأعماق أن ترتد عليه بهذا الغضب.


و كان باستطاعتنا الآن أن نطرح بكل ثقة، سؤال المرحلة الأوحد المتبقي : ماذا بعد عزيز؟


لكن محاولة الرد عليه ، تفقد المسار حرارة ردة الفعل التي نحتاجها الآن من صنفه، لتكون شافية لغليل مجتمع أهين بما فيه الكفاية على أيادي عصابة غرباء ، يجب أن تكون عقوبتها بحجم ما خلفت في بلدنا من مآسي و عار.
  


  
 


 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى