سناء الشعلان قلم يمطر حكايا الحرمان سوار يطوق قصص تعج بالحياة

الزمان انفو ـ

 

altد.نهلة الجمزاوي  / الأردن

 في أرض الحكايا تقف مذهولا لتصدق ما ظنته سناء في طفولتها أن هناك أرضا للحكايا، لتجد نفسك في غابة خصبة خضراء تعج بالحكايا الغريبة القريبة..

 

 

 

اذ تأخذك الى عالم ألف ليلة وليلة الحالم وتطوح بك لتزجك في أزقة الواقع اليومي المعاش بكل تفاصيله وعبر قلم تنساب منه الحكايا بسلاسة حبات المطر، اذ تجد نفسك في عالم من الإثارة والدهشة أمام بساطة الحكاية وقربها الى نفسك حتى لتحسب أنك عشتها يوما ثم سرعان ما تنزلق من بين يديك الحكاية لتقع في شرك حكاية أخرى تشبهك أو تشبه جارك أو صديقك أو فيها بعض من ملامح حيك وبلدتك.

ما قصدته هنا أن سناء استطاعت أن تنغمس في الواقع النفسي والإجتماعي العربي حد التفاصيل لتخرج بقصص ملونة مثقلة بعذابات القهر والحرمان للنفس البشرية.

لم تكن سداسية الحرمان في مجموعتها القصصية أرض الحكايا وحدها تعبر عن “الحرمان من الحاجات الإنسانية الأساسية المهمشة” بل إن همّ الحرمان جاء ليطوق قصصها كسوار لا تحجبه التورية أو محاولة الإلتفاف على شكل القصة أومضمونها.. المغاير فيما طرحت سداسية الحرمان أن بطل القصة كان رجلا والرجل حسب مجتمعنا له الحق في اطلاق العنان لرغباته الإنسانية الى أقصى حدّ، وكم ظلم الرجل في المبالغة عند معالجة هذه القضية أدبيا أوبحثيا من قبل أقلام لا حصر لها عددا وزمنا، ذلك لأن المعروف والمتفق عليه أن الحرمان قضية تتعلق بالمرأة فحسب.

altمعالجة المسكوت عنه في سداسية الحرمان جاء فعلا بالجديد الذي ينصف هذا الكائن المسكين الذي طالما نشهر أقلامنا في وجهه على أنه المتربع على عرش لذات الحياة الإنسانية، اذ تطيح به سناء لتضعه على أرض الواقع وتكشف عن حقيقة أمره وتسلط الضوء عبر مشاهدات درامية عن مكنونات نفسه التائقة الى الحياة والمعبأة بالفراغ والحرمان، ذاك الحرمان الذي كثيرا ما تأبى عليه رجولته التعبير عنه.. وعبر صور وأشكالاً كثيرة يعج بها مجتمعنا تجعل من الحرمان وحشا يقود الإنسان أحيانا الى الجريمة والعنف أو يتركه حطاما انسانيا لا يدرك مصابه أحد، فمن الرجل الأسطوري في الجزيرة الى فتى الصالون الواقعي المعاش ترتسم صورة الحرمان جلية بين السرد والمولوج فتقول: “يعزف بيديه على أنوثة الزبونة كما يعزف الموسيقار على آلته الأثيرة يتخيل الزبونة امرأته هو بالذات يخلق وجلاتها وألوانها كما يشتهي هو بالذات، يتركها آلهة للجمال، تطير الزبونة فرحا ورضا بما فعل وتنقده اكرامية سخية لتطير الى حضن رجل ما، ويبقى في فوضى أنوثتها المغادرة”

في أكاذيب البحر والنوارس تجعل المرأة شريكا في الحرمان وضحية أيضا فتبدأ قصة بطلتها بالعبارة الجازمة: “حرام أن تعشق حرام أن تشتهي” هذا هو الدرس الأول الذي لقنه لصبية الطائفة عندما كان معلما طفلا”.

ثم يأخذ الحرمان أشكال مختلفة في قصص المجموعة ليتمثل في كل شرائح المجتمع طفلا وامرأة، أفرادا وشعوبا، ويتجلى بصورة كاريكاتورية ساخرة في قصة “الباب المفتوح”

عندما أخذتنا لمشهد من ألف ليلة وليلة لترسم صورة السلطان السمين ذي الجواري الحسان حين أمر باعدام طفل حلم بشرب الحليب الذي تستحم به جواري السلطان.. اذن هو وجه آخر من وجوه الحرمان حيث الفقر الذي تنتجه الظروف السياسية والطبقية حيث مسخ الإنسان وتحويله الى شيء مجرد من الحاجات الطبيعية التي فطر عليها…

في الجدار الزجاجي يتجلى الحرمان بأقسى صوره عند فصل الطفل عن أمه فيكون جدار النافذة الزجاجي للسيارة التي أقلت أمه عند الرحيل هو السبب الأول في تعرفه على ملامح الحرمان، تقول: “جدار زجاجي رقيق كما رقاقة كنافة هو أول من أذاقه الحرمان”، ثم ترسم سناء صورة واقعية لمأساة يعيشها آلاف الأطفال في مجتمعنا ممن يقعون فريسة فقدان الأم والحياة في ظل زوجة الأب الظالمة حد الإجرام دون عين اجتماعية تترصد لهذه المشاهدات لتنقذ أطفالا أبرياء يلاقون عبر بيوت مسقوفة محترمة ما لا يلقاه سجين سياسي في معتقل العدو.. هنا تسلط سناء ضوء قلمها على مشهد من مشاهد تلك المأساة الإجتماعية لترسم عذابات طفلين عايشا ذل الأم واقصائها قسرا عن حياتهما لإحلال زوجة الأب الغليظة المتوحشة لتذيقهما ألوانا من الذل والحرمان.

الزجاج هنا حاجز منيع لكنه يشف عما خلفه، وهنا تأتي فلسفة “الزجاج” كونه حاجزا فاصلا لكنه يكشف عن كل ما يدور حوله.. مما يعمق الشعور بالحرمان ويزيد من حدة العذاب أن يرى الإنسان ما هو محروم منه أمام ناظريه.. وتتعدد صور الجدار الزجاجي ليأخذ أشكالا متعددة فيصبح سجنا له عندما تحبسه زوجة أبيه بين زجاج النافذة وقضبانه الحديدية ليفصله عن أخته عيشه وهو يشاهد تعذيبها على يد زوجة أبيه وعن الأطفال الذين يمارسون حياتهم الطبيعية باللعب في الحارة، كما هو حاجز يفصله عن أخوته من ابيه الذين يرفلون في ثياب الطفولة المكللة بالعناية والدلال كما يحول دون ايصال شكواه الى أبيه، تقول: “بقي الجدار الزجاجي عملاقا لحرمه من أبيه وأمه ومن طفولته التي تفر ببطء… “في كل ليلة يحلم بأنه حطم ذلك الحائط الزجاجي الملعون “.

هنا يبدأ في مقاومة حائطه الزجاجي بالحلم بتحطيمه خاصة بعدما شعر بعجزه الشديد حيال انقاذ أخته التي أحرقت نفسها في محاولة للخلاص.

الزجاج مرة أخرى يتمثل في صندوق المستشفى التي وضعت به عيشة للعزل يقف أمام رغبته في لمسها وتقبيلها ليشكل حاجزا جديدا أمام رغباته ومصدرا لتعميق ألمه ومعززا لفكرة هروبه الى خارج سجن زوجة أبيه.

وبعد الهرب في محاولة للخلاص يتجلى الجدار الزجاجي مرة أخرى ليفصله عن الدفء وأسباب الحياة وهو يرقد محاولا التماس الدفء ملتصقا بنافذة صاحب العمل ليموت متجمدا حالما بأمه وبالدفءخلف الجدار الزجاجي الذي حال في النهاية بينه وبين الحياة.

اذا هي رحلة المعاناة والحرمان تتمثل في فصل الإنسان عن رغباته وحاجاته هي في مرمى نظره ورؤيته مجسدة ذلك في “الجدار الزجاجي ” الذي يعمق الحرمان ويزيد من الشعور بالظلم.

في ملك القلوب حيث محاولة اللجوء الى السحر لفك طلاسم مصدر الألم لنكتشف ببساطة أنه الحرمان ثانية وأن الحب هو التعويذة السحرية الوحيدة للتغلب عليه وهنا دخول بطريقة شفيفة الى النفس البشرة للبحث في مكامنها والوقوف على احتياجاتها ببساطة ويسر ودون تعقيد..

“ذاب ملك القلوب سعادة وأورقت القلوب عشقا وسعادة وكتب في سفر السحر الأعظم كلمات حب سحرية جديدة”

في “البلورة” تعود سناء لرسم صور أخرى من صور الحرمان حيث العلاقة بالوطن وبالآخر المتمثلة بالحرمان من الحرية حرية التواصل مع الحبيبة حرية التعبير عن رأيه حرية الرفض لفكرة الحرمان ذاتها

“حرم من كل شيء، بداية حرم من حنان اسمه أم وأب فيما بعد حرم من حنان التي أحبها بقدر حب الأصداف للبحر ابتعد عن حبيبته البحر لكنه بقي ما بقي يحمل في داخل صدفته صوت هديرها ورائحة ملوحتها.. “

“فيما بعد سجن لأنه قال “لا للحرمان” كان غريبا في وطنه وعدوا في سجن الخذلان”

مرة أخرى يعود الزجاج ليمثل قيدا على البطل من خلال البلورة الزجاجية السحرية التي يستخدمها ضابط المخابرات ليراقب البطل ويحاصر حريته وكما وقف الحائط الزجاجي حائلاً بين الطفل ورغباته في قصة الحائط الزجاجي وقفت البلورة حائلا بين الرجل وحريته وسببا لمعاناته ليتحول من سجن الوطن الى سجن أضيق هو سجن البلورة الأكثر ضيقا ومحاصرة من السجن الذي ضم جسده فالبلورة تحاصر روحه التائقة الى الحرية “وأصبح سجين البلورة، كان يعرف أن كل كلمة يقولها تنقل إليهم… ” اذا حاول التخلص من سلطة البلورة فلم يفلح الا بالإنتحار.. ثم تتوالى التداعيات.. ليكتشف الضابط صاحب البلورة أنه يقع أسير بلورة أكبر مما يقوده للإنتحار أيضا، اذا هو الموت يعود من جديد كصيغة للرد وليعبر عن ضعف صاحبه أمام الحائط الزجاجي الحائل دونه والحياة.

تتناسل الحكايات بأشكالها المختلفة وتنطلق راكضة في “أرض الحكايا “وتتفنن سناء في رسم صور وأشكال لأبطال أخرجتهم من قلب الأرض وأسرجتهم خيول الخرافة لتعود بهم منكسي الرؤوس أمام سطوة الواقع على الإنسان لتخرج بهم محملين بعناء بحثهم الدؤوب عن حقهم الفطري في الحياة محاولين فض سوار الحرمان الذي يطوق أعناقهم.

 

 

 

 

 

هوامش البحث:

 

   

 

سناء شعلان: أرض الحكايا، ط1، قطر، الدوحة، 2006.

 

 

 

رواية “أعشقني” في ضيافة نادي أصدقاء القراءة للمكتبة الوسائطية الطنجية

 

الذي سرق نجمة للدكتورة سناء الشعلان

مهاجر يكتب :”الجنس كقضية”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى