مدرسة الشيخ سيدي محمد الكنتي ودورها في التاريخ الموريتاني

images

توطئة: يدل –كما قدمنا في مداخلة سابقة بعنوان “الشيخ سيدي محمد الكنتي: الأب المؤسس لتاريخ البيضان”- «استقراء الروايات التاريخية المتاحة التي تتحدث عن الأب المؤسس لقبيلة كنته الشيخ سيدي محمد الكنتي، دفين فصك (ولد على الأرجح في العقد السادس من القرن 8هـ/14م، وتوفي في العقد السادس من القرن 9هـ/15م) على أنه كان بلا شك شخصية علمية ودينية ذات أثر كبير على تاريخ وحضارة هذه البلاد.

ففضلا عن كونه أقدم مؤسس لمدرسة علمية وروحية تعددت فروعها وتسلسلت في أحفاده على مدى قرون متطاولة، فإنه يرجع إليه الفضل في تشكل مجتمع البيضان بنسقه الحالي. فقد قاد دوره المحوري في حرب شرببه الكبرى (دارت من 850هـ/ 1446م إلى885هـ/ 1480م) بين قبائل البلاد الصنهاجية، والقبائل العربية الوافدة من بني حسان، إلى انهيار دولة كانت متحكمة في كامل الصحراء لعدة قرون هي دولة ابدوكل، وقيام دولة جديدة محلها هي دولة بني حسان، كما قاد إلى بلورة تراتبية اجتماعية جديدة، تحتل فيها القبائل العربية الحسانية الوافدة صدارة الهرم الطبقي، وتتمتع فيها قبائل الزوايا الدينية بالريادة الفكرية والثقافية، وتتقاسم فيها هاتان الارستقراطيتان مغارم ومنافع القبائل الصنهاجية المستضعفة التي أوهنتها حرب شرببه وعجزت عن الذب عن حماها. فقد أسس الشيخ سيدي محمد الكنتي لهذه التراتبية الاجتماعية الجديدة التي حلت محل الترابية الاجتماعية الصنهاجية القديمة، في حوار تاريخي -نقله لنا حفيده الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي في كتابه الرسالة القلاوية- دار بين الشيخ سيدي محمد الكنتي وقبيلة أولاد الناصر الحسانية التي هي إحدى القبائل الأميرية الرائدة في بني حسان حول ظروف وشروط حرب شرببه قبيل اندلاعها، وعندما انتهت الحرب أدى تداخل قبائل الطرفين الحساني والصنهاجي وانصهار ثقافتيهما في بعضهما البعض، وفق المنهج الذي رسمه ورغب في وقوعه إلى نشوء البيضان بثقافتهم وحضارتهم الحالية. ومثل الشيخ سيدي محمد الكنتي نفسه أول نموذج حي لذلك الانصهار، فهو من ناحية ينحدر من نفس الأصل الارستقراطي القرشي العربي الذي تنحدر منه الارستقراطية الناصرية الحسانية، عن طريق أبيه سيدي اعلي بن سيدي يحيى التواتي الفهري، بينما ينحدر من ناحية أخرى عن طريق أمه من قبيلة ابدوكل التي تمثل الارستقراطية الأميرية لقبائل صنهاجة الصحراء ». وسنركز في هذه المداخلة –كما يقتضي ذلك برنامج الندوة- على هذين الطرفين (ابدوكل وأولاد الناصر) اللذين يمثلان الجيل الأول المعاصر للشيخ سيدي محمد الكنتي، وذلك من خلال السياق التاريخي لهاتين القبيلتين نشأة وتطورا، ثم من خلال العلاقات التي ربطتهما بالشيخ، وانعكاسات تلك العلاقات على مستقبلهما وعلى مستقبل مجتمع البيضان وعموم المنطقة. –    أولا قبيلة ابدوكل: المسار التاريخي أدى سقوط دولة المرابطين الشمالية والأحداث التي تلته إلى نزوح متفاوت لعدد من محلات (كتائب محاربة) وطوائف المرابطين التي كانت بشق الدولة الشمالي بالمغرب إلى بلاد شنقيط. ومن أشهر الطوائف المرابطية النازحة إلى بلاد شنقيط طائفة لمتونة المعروفة باسم الطائفة التندغية بزعامة قبيلة ابدوكل اللمتونية وقيادة الأمير المرابطي يحيى بن أبي بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين المشهور بابن الصحراوية التي اتخذت في هد حفيده الأمير الخضر من إيگيدي الشمالي (عند ملتقى الحدود الموريتانية الجزائرية) مستوطنا لها سنة 624هـ/ 1227م، حيث أقامت دولة قوية عرفت بدولة المرابطين (الصغرى) .  وتحكمت ابدوكل خلال القرنين السابع والثامن الهجريين (13-14م) في المجال الواقع بين السودان وتوات وآدرار والساقية الحمراء إلى جهة المحيط الأطلسي ، ومدت سلطانها جنوبا حتى وصلت إلى الحدود السودانية. كما انتشرت في الصحراء الواقعة شمال آدرار وشرقه، ثم حاولت منصرم القرن الثامن للهجرة (14م) أن تكون لها مغارم وإتاوات في آدرار وتگانت فاصطدمت بطائفة مرابطية اخرى تدعى الطائفة الهوگارية، فاندلعت بين الطرفين حرب شرسة . وتصادفت حرب طائفة ابدوكل والطائفة الهوگارية مع وصول بني حسان إلى أطراف بلاد شنقيط، ومشاركتهم للطائفتين في خفارة القوافل. وبينما كانت إمارة ابدوكل تتوسع وسلطانها يتعاظم حل بها الشيخ التواتي سيدي اعلي بن سيدي يحيى بن عثمان الفرد بن الحسن الفهري الذي كان مستوطنا بتوات (بالجزائر الحالية)، وكان مسموع الكلمة عند زعماء العرب ومشائخ البربر وصنهاجة، فانتقل إلى صحراء بلاد شنقيط وتزوج في قبيلة ابدوكل من بنت رئيس ابدوكل أهوا (حواء) محمد بن ألما (ومعناها العالم) بن كنت، فكان له من أهوا ابنه سيدي محمد الذي اشتهر بسيدي محمد الكنتي. وحسب الاستقراءات التي قمنا بها فإن انتقال الشيخ التواتي سيدي اعلي وولادة ابنه الشيخ سيدي محمد تمت بين سنوات 750 و760هـ (1349 و1359م). وقفل سيدي اعلي راجعا إلى توات فتوفي بها، بينما نشأ ابنه سيدي محمد الكنتي في أخواله ابدوكل، فتعلم القرءان وبعض العلوم الدينية، ورحل في طلب العلم، حتى تخرج على يد كبار علماء عصره وتصدر في الطريقة القادرية، ثم رجع إلى أخواله ابدوكل بالصحراء، فاستوطن هنالك دهرا معززا محترما، مقدما على جميع اللمتونيين، محكما فيهم –كما قال الشيخ سيدي محمد الخليفة في كتابه الرسالة القلاوية – لا ترد له كلمة. –    ثانيا قبيلة أولاد الناصر: المسار التاريخي عبرت قبائل بني سليم وبني هلال العربية سنة 441هـ/ 1049م  النيل ودلفت من مصر إلى شمال إفريقيا بتشجيع من المستنصر العبيدي وزيره اليازوري بادئة حملة اجتياح واسعة لمنطقة المغرب العربي، وكان مع بني هلال وبني سليم قبيلة جعفرية قرشية قليلة العدد آنذاك تدعى عرب المعقل، فاجتاحت مع هذه القبائل منطقة إفريقية (تونس) والمغرب، وانتشروا فيها، واقتسموها، ولم يزالوا كذلك حتى جاء المرابطون فمحوا جل ملكهم بالمغرب، لكن المرابطين، لم يبسطوا سلطانهم على إفريقية كما فعلوا مع المغرب والأندلس. ثم حكم الموحدون فعملوا على الاستيلاء على كل الملك المرابطي، وعلى بسط سلطانهم على إفريقية والأندلس سنة 541هـ/ 1049م، وانقسم هؤلاء العرب بين دعم الدولة الموحدية والمقاومة المرابطية، فكانت قبائل زغبة وعرب المعقلممن دعم الموحدين في محاربة الأمير المرابطي ابن غانية وأتباعه، فاكافأهم الموحدون بعد الحرب بنقلهم من إفريقية إلى المغرب الأوسط حيث أصاروهم يدا واحدة مع بني بادين من زناتة، فنزلوا بين المسيلة وتلمسان بالقفار، بينما كان بنو بادين وزناتة في التلول. ولما هجرت زناتة التلول إلى الأمصار دخل زغبة هذه التلول وتغلبوا فيها، ووضعوا الإتاوة على الكثير من أهلها من صنهاجة وسائر القبائل. ثم خلا القفر من ظعون زغبة وحاميتهم لانحرافهم نحو المدن، فطرقه عرب المعقل، من جهة نواحي ملوية، وحول رمال تافيلالت، وكانوا قليلي العدد فعفوا وكثروا، ونموا نموا لا كفاء له حتى غصت بهم قفار المغرب، وتغلبوا على زغبة فيها وأحالوها إلى قبائل غارمة مستضعفة، فذلك أصل المثل الحساني “أرگ من زغبة”. وملك عرب المعقل قصور زناتة التي كانت لهم بالقفار لما دخلت زناتة إلى الأمصار والمدن، ثم استولوا على قصور السوس غربا وتوات وما وراءها من القصور شرقا، فغلبوا على تلك النواحي، وجعلوا أنفسهم خفراء لمن بها من قبائل زناتة وصنهاجة، ومن بقي من عرب زغبة بتلك القفار، وجعلوا عليهم غرامة يأخذونها منهم . ومن أهم قبائل المعقل التي برزت في هذا العهد بنو حسان (حسان الأكبر) بن المختار بن محمد بن معقل، وهم قبائل منهم اعريب، وأولاد اسعيد، وأولاد حسان (حسان الأصغر)  الذين جازوا إلى بلاد شنقيط، وهؤلاء ستة فروع: أولاد دليم، والرحامنة (أولاد عبد الرحمن)، والبرابيش (أولاد حمه)، وإجمان (أولاد أعمر (بضم الميم) )، وأولاد اعبيد الل (اليعقوبيون)، والودايا (أولاد أحمد المشهور بأودي جد أولاد اعروگ، وأولاد رزگ، وأولاد مغفر)، ومغفر هو أبو ناصر جد قبيلة أولاد الناصر. وظلت مواطن بني حسان ومن معهم من عرب المعقل تحاذي مضارب الملثمين في البرزخ الفاصل بين بلاد السوس وبلاد شنقيط، إلى أن اصطدموا بالسلطان المريني أبي يعقوب بن أبي يوسف سنة 686هـ/ 1287م بالسوس وصحراء درعة فأثخن فيهم، وألجأهم إلى الصحراء المواجهة لبلاد شنقيط حيث استقروا بعد ذلك على إثر حروب خاضوها مع قبيلة هنتاتة صرفت نظرهم نهائيا عن بلاد المغرب. وحروبهم الشديدة هذه مع هنتاته وما لاقوا فيها هو أصل استعمال كلمة “هنتات” في اللهجة الحسانية بمعنى غاصب. –    ثالثا: الشيخ سيدي محمد الكنتي: من ابدوكل إلى أولاد الناصر تزامنت ولادة الشيخ سيدي محمد الكنتي في إمارة ابدوكل مع وفاة الامبراطور المالي المنسا سليمان 761هـ/ 1360م، الذي اضطربت أحوال الامبراطورية المالية بوفاته، وتقلص نفوذها الذي كان قويا في تلك الفترة على بلاد شنقيط، ففتح ترديها الباب أمام محلات طائفتي صنهاجة القويتين الطائفة التندغية والطائفة الهوگارية للانتشار في أنحاء بلاد شنقيط بحثا عن المغارم والإتاوات، كما أغرى هذا الوضع بني حسان الذين كانت الأحوال قد ألجأتهم إلى الصحراء، فأخذوا في مشاركة قبائل صنهاجة في مجالاتها الشمالية، فكانت لهم عام 762هـ/ 1361م في إگيدي (الشمالي) مزاحمة لقبائل ابدوكل وسائر صنهاجة على خفارة القوافل المارة بهم. وأقرت صنهاجة بني حسان على دورهم المحدود في المنطقة بعدما أصبحوا أصهارا لهم، حينما تزوج حمه البربوشي بابدوكلية هي أم ابنه عمران، وجدد تلك المصاهرة حفيد أخيه أدي عثمان بن مغفر بصنهاجية أخرى تدعى مروشه بنت الاحمر. ومرت تسعون سنة (من 761هـ إلى 850هـ/ 1360م إلى 1446م) هيمنت خلالها محلات ابدوكل على جل قبائل ومجموعات بلاد شنقيط البربرية والسودانية التي أصبح للصنهاجيين عليها مغارم سنوية معلومة. ثم جاءت السفن التجارية الأوروبية (البرتغالية) إلى السواحل الشنقيطية فأقامت بعد أعوام من التردد على المنطقة عام 850هـ/ 1446م تجارة منتظمة مع الأهالي، وبنت قلعة بشبه جزيرة آرگين، كما فتحت خطا تجاريا مع موانئ الصحراء والسودان كتينيگي وشنگيطي وودان التي كانت تعتبر آنذاك أهم محطة تجارية بآدرار تؤمها القوافل لتحميل الملح وتبادل السلع.  وأذكت التجارة الأطلسية الأوروبية الجديدة المغرية لبدو الصحراء المنافسة بين الطائفتين التندغية والهوگارية، وامتدت إليها أعناق بني حسان الطامحين إلى الاستفادة من خفارة هذا الخط التجاري الجديد. وكان الشيخ سيدي محمد الكنتي زعيما نافذ الكلمة بالصحراء، وتهابه الطوائف الثلاث القوية فيها وتحترمه: طائفة أخواله ابدوكل، والطائفة الهوگارية، وطائفة بني حسان الوافدة. وتزوج الشيخ سيدي محمد الكنتي في تجكانت بتينيگي الذين كانوا يمثلون إحدى أبرز حواضر العلم في البلاد آنذاك، من بنت ءال محم (محمد) بن يهس (الحسن) بن أيشف (يوسف)، أم ابنه الشيخ سيدي أحمد البكاي (تـ920هـ/ 1514م). وكان تجكانت بتينيگي أهل علم ودين، فكان الشيخ سيدي محمد الكنتي يرى أن على أخواله ابدوكل رعاية حق صهارته معهم، وكان يشاركهم في السعي إلى رد ما أخذه أخواله من القوافل المتجهة إليهم، إلى أن حدث أن رد غزو من ابدوكل يوما وساطته لاستعادة بعض ما أخذ من إحدى قوافل تينيگي، وجذبوا رداءه حتى سقطت قلنسوته، وطرحوا رحله أرضا، فأغاظه ذلك وانحرف بمودته عنهم. وبلغ ما حدث بينه وبينهم غزوا من بني حسان من أولاد الناصر كانوا يجوبون المنطقة، وكانوا على معرفة بمكانة الشيخ الروحية والعلمية، وبما يقال من استجابة دعائه، فتقاولوا بأن ما يزيل قلنسوة الشيخ عن رأسه يذهب الملك من أسه، وهرعوا إليه طالبين منه أن يدعو لهم بملك لمتونة، فقال لهم: دعوت الله عليهم بإذهاب الدولة، وإيهان الصولة، فأجابني فيهم. فقالوا له: كيف لنا بجموعهم المتكاثرة؟ فقد كانت جموع ابدوكل ومن وراءها من لمتونة وسائر صنهاجة أكثر بكثير من بني حسان، فقال لهم: إنما عليكم شن الغارات والإجهاز عليهم. ونهاهم عن استئصال شأفتهم إذا غلبوهم، طالبا منهم استبقاءهم لحمة لبني حسان وبنيه هو، كما نهاهم عن التعرض لزواياهم، فانقلبوا إلى ذويهم فأخبروهم الخبر . وبعد هذه الواقعة تحالف أحد زعماء الطائفة الهوگارية اللمتونية التي كانت في صراع مع ابدوكل، اسمه  بُبه مع عرب بني حسان، وجعل يؤلب القبائل الصنهاجية المختلفة على ابدوكل، ويحرض المجموعات السودانية والبربرية التي كانت تؤدي الغرامة لابدوكل على التحالف معه ضدها، ويجمع الأصحاب (الغارمين) من القبائل الغارمة لبني حسان، وعنده صك من الشيخ سيدي محمد الكنتي وفتوى من قاضي تينيگي القاضي يعقوب بن القاضي يحيى بن رمظان خال أبناء الشيخ سيدي أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد الكنتي بقتال ابدوكل على بغيهم، فاندلعت الحرب: الطائفة الهوگارية وبنو حسان ومن انضم إليهم من صنهاجة والبربر لجهة وطائفة ابوكل ومن انضم إليها من الطائفة التندغية وصنهاجة والبربر لجهة. وكانت هذه الحرب التي عرفت باسم شربُبه (الكبرى) سجالا بين الطرفين، ودامت كما قال الشيخ سيدي المختار الكنتي في وثيقة نادرة نشرت أخيرا خمسة وثلاثين عاما (من 850هـ/ 1446م إلى885هـ/ 1480م) ، كان بنو حسان خلالها يسيرون الغزوات من مقارهم شمال بلاد شنقيط، فيغيرون على القبائل والمحلات المعادية لهم ثم يعودون سراعا -بفضل الخيول التي كانوا يتوفرون عليها وكانت نادرة لدى صنهاجيي الصحراء آنذاك- إلى مواطنهم، ويمنحون الأمان لمن تحالف معهم، ويضعون المغارم على من قدروا عليه من قبائل ومحلات صنهاجة. ويصف الشيخ سيدي المختار الكنتي هذه الحرب والصلح الذي انتهت به قائلا: «أول من أتى هذه الديار قبيلة لمتونة بعد سلب ملكهم في المغرب.. فكانت الطائفة الحجارية [الهوگارية] تقطن بآدرار وتگانت وآفطوط وأفله والرگيبه، والأخرى إلى جهة البحر وهي الطائفة التندغية، فتغلبوا على السوادين، وسبوا ذراريهم وأموالهم، وجعلوا عليهم خراجا يشبه الجزية كل عام، وذلك على أن على كل بالغ منهم أربعين درهما، فطابت لهم المعيشة واستقر ملكهم غاية القرار تسعين سنة، فأراد الله أن يخرج رجل منهم يقال له بُبه، فأخذ كثيرا من العرب حلفاء عليهم وطائفة من لمتونة فحاربوهم خمسا وثلاثين سنة حتى ظفر بُبه وقومه بهم، فركب وفدهم إلى بُبه [زعيم الطائفة الهوگارية] وقومه يريدون الهدنة فوقع الصلح بينهم على أن كل حر خارج من صلب لمتونة، ومن اشترك معهم حليفا لهم لا يحمل سلاحا أبدا، ويعطي خراجا معلوما لمن نصر بُبه » ووقع هذا الصلح على أن لهم على كل صنهاجي حلوا بساحته ضيافة ثلاثة أيام، ومركوبا يوصله أو دليلا يرافقه إلى موطنه أو إلى صنهاجي آخر يحل محل الأول في ذلك، وعلى أنه لبني حسان ثلث ما يمتحه الصنهاجيون بالدلاء من أمواه الآبار، ونصف ما يمتحونه من أمواه العقل، ولهم حق مشاركة صنهاجة في مرعاهم، ولصنهاجة على بني حسان حق حمايتهم من غيرهم ومن بعضهم البعض مقابل مغرم سنوي محدد، ومن دخل في حماية بني حسان أو كنتة أو طائفة بُبه (الطائفة الهوگارية) أمنته بقية الطوائف، فنشأت بذلك لكنته دولة عظيمة، مهابة من قبل المجموعتين الحسانية والصنهاجية. وأخذ بنو حسان بعد انتصارهم في هذه الحرب في مد هيمنتهم وسلطانهم إلى مختلف أرجاء بلاد شنقيط. واحترموا من ترك السلاح من صنهاجة واشتغل بالعلم حتى برزت مكانته أو ظهرت بركته فلم يتعرضوا له، فكثر بذلك الزوايا في صفوف قبائل صنهاجة التي تخلت عن السلاح. أما المنهزمون ممن لم يعتصم بعلم أو دين أو سلاح من قبائل صنهاجة فدخلوا إما في لحمة بني حسان أو لحمة كنته –كما أراد الشيخ سيدي محمد الكنتي في حواره المتقدم الذي نقله الشيخ سيدي محمد الخليفة في الرسالة الغلاوية. وتشكل على هذا الأساس مع مرور الزمن مجتمع البيضان بلغته الموحدة (الحسانية) وعاداته الموحدة وثقافته الموحدة، وبتراتبيته الثلاثية القائمة على أرستقراطيتي حملة السلاح وحملة العلم والطبقة الإنتاجية ممن هزموا وتحملوا المغارم ولم يستطيعوا أن يلوذوا بصلاح أو بسلاح. وخلف هذا الواقع لكنته دولة عظيمة في بلاد السيبة، فالمجموعة الحسانية التي وجدت في الشيخ سيدي محمد أكبر سند لها في حربها مع صنهاجة ظلت وفية لتحالفها معها طيلة قرون عديدة، والمجموعة الصنهاجية لاذت منها مجموعات مختلفة بحضرة الشيخ سيدي محمد الكنتي تحصنا من تغريم أو استغلال بني حسان لها خلال هذه الحرب وبعدها.

رابعا: مدرسة الشيخ سيدي محمد الكنتي ودورها في التاريخ الموريتاني وكما كان للشيخ سيدي محمد الكنتي دور فاعل في أحداث عصره كان لأحفاده أيضا دور مهم في أهم مفاصل التاريخ الموريتاني، فالشيخ سيدي أحمد البكاي (تـ920هـ/ 1514م) الابن الوحيد للشيخ سيدي محمد الكنتي تزوج كأبيه قبل أن يرحل إلى ولاته في تجكانت بتنيگي من بنت يعقوب الرمظانية، وأنجب منها أولاده الثلاثة الذين تفرعت عنهم شجرة قبيلة كنته وهم: الشيخ سيدي محمد الكنتي الصغير، والطالب بوبكر الحاج، وسيدي أعمر الشيخ. ومثل وصول الشيخ سيدي أحمد البكاي إلى ولاته حدثا فريدا في تاريخ قبائل المنطقة التي تروي كيف حول ولاته إلى قرية آمنة من السباع بنفس الطريقة التي قام بها جده عقبة بن نافع في القيروان. وظل الكنتيون سادة للأرض بعد مقدم بني حسان، وامتلكوا أهم مصادر الثروة فيها من مناجم وواحات، ونشروا العلم والتصوف، وإليهم تعود أعلى السلاسل القادرية التي هي أقدم الطرق الصوفية في البلاد، وقد بلغوا من الصيت والرفعة والانتشار في الأرض وكثرة العظماء مبلغا كبيرا لم يبلغه أحد سواهم. وانتشر تأثيرهم الديني جنوبا في عموم إفريقيا حتى ناهز الكامرون، مما جعل إشعاعهم في إفريقيا يغطي مساحات أكبر من مساحة الأندلس ولا يزال إشعاعهم ممتدا فيها حتى الآن. كما انتشر شمالا وشرقا كذلك في وقت ما زالت فيه النهضة العلمية لعلماء بلاد شنقيط في بواكيرها فسيدي أعمر الشيخ بن الشيخ سيدي أحمد البكاي هو الذي جاب المنطقة مرافقا لشيخه المغيلي أولا، ثم بعد ذلك لما تولى مشيخة الطريقة القادرية بعد وفاة شيخه المغيلي، طولا وعرضا في رحلات دعوية لا تنقطع إلى المشرق والمغرب وفي حوض نهر النيجر وبلاد السودان داعيا الناس إلى مباديء الدين، ومربيا للأجيال على طريقته القادرية البكائية الكنتية. ليقوم الشيخ سيدي المختار الكنتي (تـ 1226هـ) بعد ذلك بتجديد المسار الروحي والعلمي الكنتي الي وصل معه الى ذروته، فهو الذي كان يعتبر مجدد القرن الثاني عشر الهجري في عموم العالم الإسلامي، وهو شيخ عدد كبير من كبار مشائخ البلاد وخارجها، الذي كان عهده من أزهى العهود التي عرفها الإسلام والقادرية في المنطقة، حيث أثمرت جهود الشيخ سيدي المختار انتشار الزوايا الكنتية في إفريقيا والقطر المغربي كله، كالزاوية المختارية الكنتية، في العاصمة الرباط، التي أسسها ابن يعقوب الحاج محمد الرباطي، والزاوية المختارية الكنتية في مدينة مراكش وكان من أعلامها الشيخ الفاضل عبد الخالق بن احمد المراكشي، والزاوية القادرية الكنتية في بمدينة مكناس، ومؤسسها الباشا عبد الله بن أحماد البخاري السوسي، الذي سافر خصيصا إلى حاضرة الشيخ سيد المختار الكنتي الصغير بأزواد لكي يأخذ ورد الطريقة القادرية الكنتية لنفسه وللسلطان سيدي محمد الرابع ابن مولاي عبد الرحمن، كما أخذ الباشا ورد الطريقة كذلك لبعض وزراء السلطان، ثم قفل راجعا إلى المغرب. وبعد الشيخ سيدي المختار جاء ابنه الشيخ سيدي محمد الخليفة الذي كان يعتبر زعيما روحيا لعدد من الدول الإسلامية الإفريقية من ماسنه إلى سوكوتو، وابنه الشيخ سيدي المختار الصغير الذي حافظ إلى الإشعاع الكنتي كبقية إخوته، وحفيده الشيخ عابدين بن الشيخ سيدي أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد الخليفة، الذي دانت له عموم بلاد أزواد ولم يكن يصدر أمر في تنبكتو ولا في دولة حمدي لبو الماسني إلا عن رأيه، ولم يلق الفرنسيون أشد عليهم مقاومة منه، وحفيده الشيخ سيدي امحمد بن الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي حاول تأسيس إمارة إسلامية في الشمال، حينما جاء من منطقة أزواد سنة 1856م (1272هـ) في وفادة إلى قبيلة الرگيبات بالصحراء، ثم بنى دارا ببئر أم اگرين واتخذها موطنا له، وامتد نفوذه إلى آدرار والساحل، وبايعته قبائل كثيرة، وزاره محمد بن أحمد ابن عيده في مقره ببئر أم اگرين، واعترف بإمامته فعاضده الشيخ سيدي امحمد الكنتي (اپيير بونت، إمارة آدرار، ص58) ، وكانت لهما أيام مشتركة، ودخلا آدرار ظافرين، وظل نفوذه يتعاظم إلى أن قتل عند تورين بـ”گور اگنيفيده” سنة 1281هـ/ 1865م.  ولا يزال الإشعاع الكنتي في هذه البلاد يمد إفريقيا والمغرب العربي والمشرق الإسلامي حتى يومنا هذا. ويكفيهم ان هذه البلاد لم تعرف سلالة تسلسل فيها العلم والولاية لعشرة اجيال متتالية الا في كنته وقد نقل لنا الشيخ سيدي المختار الكنتي هذه السلسلة التي اطلق عليها العلماء اسم سلسلة الذهب الكنتية وهي: العالم والولي سيدي المختار بن العالم والولي سيدي محمد الأمين بن العالم والولي سيدي المختار الملقب عنتر بن العالم والولي سيدي أعمر بن العالم والولي سيدي أحمد بن العالم والولي سيدي محمد الرگاد بن العالم والولي سيدي أحمد الملقب بالفيرم، بن العالم والولي سيدي أعمر بن العالم والولي سيدي أحمد البكاي بن العالم والولي سيدي محمد الكنتي. وقد نظمتهم انا متوسلا بهم في مناسبة سابقة فقلت: “رب بجاه السيد المختار        الصالح العالم ذي الفخار وجاه سيدي محمد الأمين        منجبه الصالح الاورع الأمين والسيد المختار أعني عنترا        منجب ذا الأخير أسمى الخفرا وسيدي أعمر الاسنى منجب        السيد المختار الاسمى الاطيب وسيدي أحمد منجب الفتى        أعمر ذي السنا الذي قد ثبتا وسيدي محمد الرگاد            منجب من ذكر من أجداد وسيدي أحمد وهو الفيرم        منجب من من الألى تقدموا وسيدي أعمر منجب الذين        تقدموا من الجدود الصالحين وسيدي أحمد وهو البكا        ي منجب الجميع الارضى الازكى وسيدي محمد الكنتي            منجب من ذكر من ولي أسألك الإيثار للمآل            والميل للإخلاص في الأعمال والانحجاز عن هوى قد غلبا        علي والتيسير في ما صعبا وأسأل العفو عن الذي مضى        وبعد نيل العفو أسأل الرضى وبعد ذاك أسأل الذي حبا        بما تقدم مقام الاجتبا والأنس والسكون بعد الانس        برب الانس عن جميع الانس والائتساء بالنبي العربي         وكل من مد له بسبب والوهب من فيض الخزائن التي    لمن رضيت عنه قد أنيلت وما به تمن من فرائد            ومن فوائد ومن عوائد فكرم المنان ليس يحصر        واللفظ عن درك مداه أقصر وقد سألته وهو أعلم            بما أبين وما أكتم مقدما سلسلة من ذهب            من حضرة القرب أمام مطلبي وخاتما بأكمل الصلاة            ختما يجيز أكبر الصلات على نبي هو محض الكرم        من مكرم على العباد منعم”.

الحسين بن محنض

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى