لمحات من حياة العلامة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني

الحسين بن محنض

قدمت هذه المداخلة في الندوة الدولية الأولى حول إسهام العلماء الشناقطة في حركة النهضة الأدبية في المشرق ملتقى القرنين 13 و14 المنظمة من قبل جامعة شنقيط العصرية

بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة أحمد بن الأمين  1913-2013م

انواكشوط 13-14 نفمبر

توطئة

تنبع أهمية الترجمة للعلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود المحظري الجكني الشنقيطي من كونه أحد أعلام بلاد شنقيط الكبار وسفرائها العظام، المجهولين لمعظم الدارسين والباحثين، فضلا عن القراء العاديين. وكذلك من جهة كونه لم يعثر له حتى الآن على ترجمة متكاملة له.. فباستثناء المعلومات المتناثرة التي قمنا بتجميعها اعتمادا على المحيط الذي نشأ فيه المترجم، أو شذرات قليلة تضمنتها هوامش بعض مؤلفاته أو المؤلفات التي تحدثت عنه، لا يكاد يوجد عنه أي شيء يذكر. وتنحصر الشذارت التي عثرنا عليها حوله أساسا في ما وثق في مؤلفاته تلميذه السلطان المغربي المولى عبد الحفيظ، أو في كتاب الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للسملالي، أو كتاب المعسول للسوسي.

والشكر موصول بهذه المناسبة لجامعة شنقيط العصرية ورئيسها الدكتور محمد المختار بن اباه والهيئات المتعاونة معها في إطار هذه الندوة، على ما أتاحته لي من فرصة إكمال ما بدأته من التوثيق لهذا العلم البارز قبل سنوات في كتابي تاريخ موريتانيا القديم والوسيط والحديث المنشور سنة 2011م. كما أشكر كل من ساهم في إنجازي لهذا العمل.

وسأتناول هذا العرض في محورين رئيسين:

المحور الأول: أستعرض فيه لمحة خاطفة عن ما للعلماء الجكنيين من مكانة في المجتمع الشنقيطي.

والمحور الثاني: أتناول فيه ما وقفت عليه من حياة  هذا العلامة الجليل.

 

أولا: مكانة العلماء الجكنيين في المجتمع الشنقيطي

لا يقدر مقولة العلامة المجتهد سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي المتوفى عام 1233هـ رحمه الله تعالى “العلم جكني” حق قدرها إلا من ألم بالدور الذي لعبه العلماء الجكنيون في إطار الحركة العلمية والثقافية لبلاد شنقيط، واطلع على مدى مساهمتهم في الإشعاع العلمي والثقافي للعلماء الشناقطة، الذي ما يزال محتاجا إلى الاعتراف به على المستوى العربي والإسلامي، كرافد أساسي للنهضة الأدبية والعلمية التي عرفتها أقطار مختلفة من مصر إلى المملكة العربية السعودية مرورا بالمغرب والعراق والأردن والكويت وغيرها.

فالجكنيون كانوا ركيزة أساسية من ركائز قبيلة لمتونة المرابطية الشنقيطية إبان الفتح المرابطي للمغرب، وكانت محلتهم بعد تأسيس الدولة المرابطية متمركزة بطنجة التي أصبحت بفضل تشجيع المرابطين للمعرفة من الحواضر العلمية المعروفة في شمال المغرب حالها حال أغمات في جنوبه. وبعد انهيار الدولة المرابطية على يد الموحدين عادوا إلى الصحراء الشنقيطية، حيث أسسوا بآدرار حوالي (680هـ- 699هـ) ، قريتهم التي منحوها اسم تينيگي، وتينيگي (تن إيگن) ليست سوى طنجة التي جاؤوا منها، فأصل طنجة قبل تفصيحها العربي (تن إيگن).

ومثلت تنيگي إلى جانب جارتيها شنقيط وودان، وتيشيت، وولاته، وتنبكتو أهم حواضر بلاد شنقيط العلمية.

واشتهرت تنيگي برواج العلم فيها حتى خرابها حوالي 1062هـ،  حتى قيل عنها –على سبيل الإخبار أو المبالغة- إنه “كانت توجد فيها ثلاثمائة جارية كل واحدة منهن تحفظ موطأ مالك”، و”إن أكثر بقاع الدنيا علما آنذاك كانت مصر وتنيگي”. ولم يحفظ لنا التاريخ مع الأسف من هؤلاء الأعلام سوى آحادا متفرقين.

أما جكنيو العصرين الحديث والمعاصر اللذين كانا أوفر حظا في هذه البلاد من حيث التدوين من العصر الوسيط، فقد حفظ لنا التاريخ أسماء عدد كبير منهم، حيث تحدث المؤرخ المختار بن حامدن في موسوعته التاريخية “حياة موريتانيا” عن مائة ونيف من علمائهم، وترجم الأستاذ يحيى بن البراء في موسوعته الإفتائية “المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء” لمائة وثلاثين  مفتيا من فقهائهم. ولا شك أن من بقي أكثر بكثير ممن ذكر في هاتين الموسوعتين كما تدل على ذلك الفتاوى والمؤلفات والمطارحات العلمية والأدبية المأثورة عنهم، ومنهم علمنا الذي سنتحدث عنه اليوم في هذه الندوة الشنقيطي محمد الاغظف بن أحمد مولود المحظري الجكني.

ويكفي تجكانت أن منهم إمام الغرب العلامة الأجل المختار بن بونه (ت 1220هـ) الذي لم يظهر عالم شنقيطي بعده إلا وله عليه منة، كما صرح به العلامة الأديب الحافظ أحمد بن الأمين الشنقيطي، صاحب الوسيط، فقد وصفه بأنه “تاج العلماء الذي طوق بحلى علمه كل عاطل، وورد هيمُ الرجال زلاله، وصدر عنه كلهم وهو ناهل، ولا يوجد عالم بعده إلا وله عليه الفضل الجزيل، بما استفاد من مصنفاته، وتلقى من مسنداته”.

ومنهم العلامة المربي الشيخ محمد المختار بن محمد المشهور بابن بلعمش (ت 1287هـ) مؤسس مدينة تيندوف حول  1270هـ  الذي “جعله الله إماما يقتدى به في العلم والدين ومهمات الدنيا، اجتمعت فيه أمور العلم والقضاء والعدل والرئاسة” كما قال عنه الطالب أبو بكر المحجوبي في كتابه “منح الرب الغفور في ذكر ما أهمله صاحب فتح الشكور”. ولم يمت هذا العالم الجليل عن تيندوف حتى أصبحت حاضرة علمية كبيرة عامرة بالمؤلفات النادرة، يقصدها العلماء، مر عليها كما نقل السوسي في المعسول “العلامة الشهير في الشرق محمد محمود التركزي, فبقي هناك ما شاء الله يدرس صحيح البخاري، ثم توجه إلى المشرق. كما مر من هناك الشيخ ماء العينين فصلى في المسجد ما شاء الله, و محمد يحي الولاتي في رحلته إلى الحج (محمد المختار السوسي/ المعسول/ 18/159-160).

ومنهم علامة الزمان وخاتِمة المحققين قاضي القضاة محمد الأمين بن أحمد زيدان (ت 1335هـ) صاحب التصانيف المحررة كشرحه لمختصر خليل في الفقه المعروف بالنصيحة، وشرحه لمراقي السعود في الأصول للعلامة المجتهد سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي وغيرهما.

ومنهم العالم الجامع بين الشريعة والحقيقة الشيخ سيدي عبد الله بن ما يابَى وأبناؤه العلماء النبهاء الذين برزوا كلهم في العلم، واشتهر منهم الشهرة الواسعة ثمانية إخوة هم محمد حبيب الله، ومحمد فاضل، وسيد أحمد، ومحمد الكرامي، ومحمد العاقب، ومحمد تقي الله، ومحمد الخضر، ومحمد محمود.

وقد هاجر من هذا البيت أربعة أعلام أجلاء ملأوا المغرب ومصر والأردن والحجاز علما وفضلا هم الشيخ العلامة الفقيه المحدث أحد مجددي العلم بالأزهر محمد حبيب الله بن مايابى دفين القاهرة، وأخوه الشيخ المتبحر العلامة حافظ الوقت الشيخ محمد الخضر مفتي المالكية بالمدينة المنورة ودفينها، وأخوهما حريريُّ زمانه حافظ المنقول والمعقول الجامع بين الشريعة والحقيقة الشيخ محمد العاقب دفين فاس، وأخوهم الفقيه المحدث القارئ بالقراءات السبع الشيخ محمد تقي الله دفين المدينة المنورة.

ومنهم العلامة الأديب الألمعي المقرئ والمدرس محمد الحسن (بيدر) بن الإمام (ت 1372هـ) الذي تخرج على يديه أفواج من فحول العلماء من تجكانت ومن غيرهم.

ومنهم العلامة المقرئ المؤلف الزاهد الشيخ أعمر بن محم بوبه تلميذ سابقه الذي تصدر للتدريس وتخرج على يديه العلماء أفواجا (ت 1412هـ).

ومنهم قرين سابقه شيخ الشيوخ بالبلاد السعودية الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار (آبه بن اخطور ت 1393هـ) المدرس بالمسجد الحرام الذي كان آية في العلم والتفسير واللغة وأشعار العرب، واحتفى به العلماء والملوك، ودرس في الجامعات السعودية، ونال أرفع المراتب العلمية هناك.

وقرينه العلامة المحدث الفقيه محمد عبد الله ولد آدو  الذي تولى القضاء ثم التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (ت 1424هـ) بالمدينة المنورة.

وقرينهما العلامة إبراهيم بن عبد الله الجكني الذي كان يشارك الشيخ آب أحيانا في درسه في التفسير بالحرم المدني، وتولى التدريس والقضاء بالسعودية وتوفي 1387هـ.

والعلامة أحمد خونا بن خطار الجكني الذي توظف في التدريس وفي أمانة المكتبات في السعودية وتوفي 1414هـ.

والعلامة المقرئ محمد الأمين بن أيده الجكني المدرس وعضو اللجنة العلمية لمراجعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ت1422هـ.

والعلامة محمد الأمين بن محمد الخضر بن مايابى الجكني قاضي القضاة بالأردن ووزير المعارف فيها، الذي ختم بالجوار بالمدينة المنورة ت 1410هـ.

والعلامة محمد المختار بن أحمد مزيد الجكني المدرس بالمعهد العلمي بالرياض ثم بدار الحديث ثم بالجامعة الإسلامية، وكانت له حلقة عامرة بالمسجد الحرام ت 1405 بالمدينة.

والعلامة الجليل محمد فال بن سيدي محمد البيضاوي الجكني القاضي والمفتي بالمملكة الأردنية المتوفى 1396هـ بعمان.

والعلامة القاضي محمد فاضل بن محمد تقي الله بن مايابى الذي توظف بوزارة الإعلام السعودية وتوفي بالقاهرة 1382هـ.

والعلامة المختار بن أحمد محمود الجكني المدرس في معهد العلوم الإسلامية بالأردن ت1380 بعمان.

والعلامة المختار بن محمد عبد الله المدرس بالحرم المدني وبدار الحديث بالمدينة المنورة المتوفى 1394هـ.

وقائمة العلماء الجكنيين طويلة جدا لا يمكن استقصاؤها في مثل هذا العرض “فليقس ما لم يقل”، وآخر من انطفأ من أعلامها العلامة اللغوي الأديب محمد عبد الله بن الصديق الذي عمل لثلاثين سنة قاضيا ومفتيا ومدرسا بالإمارات العربية المتحدة (ت 1433هـ) بانواكشوط، وقد حظيت بشرف التعرف عليه قبيل وفاته في بيته بتفرغ زينه.

والعلامة أحمد بن أحمد المختار صاحب كتاب مواهب الجليل من أدلة خليل” وتكملة عمود النسب المتوفى قبل أربعة أشهر (1434هـ) بالمدينة المنورة. وقبلهما بسنوات (1408هـ) خاتمة الحفاظ العلامة محمد يحيى بن الشيخ الحسين الذي كان يلقي المتون من حفظه، وقرينه العالم الشاعر الناجي بن محمود الذي سبقه بسنة واحدة، والعلامة عبد الله بن  بونه المجاور بالمدينة المنورة الذي توفي في نفس الفترة، وكان والدنا العلامة المؤرخ المجاور المختار بن حامدن يمر عليه في منزله كل جمعة عائدا من الحرم المدني، ويسمي ساعته التي يقضي معه بساعة الجمعة، وتوفي قريبا من سابقه.

ثانيا: العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي:

ينحدر العلامة محمد الاغظف بن أحمد مولود الجكني الحوضي وأحيانا يقال الولاتي من أسرتين علميتين شهيرتين ببلاد شنقيط، فأبوه أحمد مولود بن خيبن محمد عبد الدائم المحظري الجكني، وأمه خدي بنت الطالب محمد بن عبد المالك الداودي الولاتي.

ولد حوالي سنة 1262هـ بمنطقة أحياء الوسرة بالحوض، وهي أحياء جكنية من بطون مختلفة خرجت من تينيگي (منتصف القرن الحادي عشر للهجرة) إبان اندلاع الحرب فيها، واستقرت بالحوض، وتواشجت فيما بينها وتعاضدت فعرفت بالوسرة التي تعني التشابك والتعاضد. واختار له أبواه اسم جده من جهة الأم القطب الكبير العلامة الصالح محمد الاغظف بن أحمد (احماه الله) الداودي (ت 1217هـ) مؤسس الطريقة الغظفية بالبلاد.

أخذ القرآن ومبادئ العلوم في بيته وبين ذويه، ثم انتقل إلى مدينة ولاته التي كانت يومها في أوج عطائها العلمي، فدرس على خاله القاضي صاحب النوازل أحمد بن عبد المالك الداودي الولاتي (ت 1303هـ) الفقه،وأخذ عن معاصره العلامة محمد يحي بن محمد المختار الولاتي الذي أجازه في علوم الحديث والأصول والعربية وغيرها. كما نهل من معين مكتبات ولاته، وارتوى من عطاء شيوخها. ثم تاقت نفسه إلى الرحلة فرحل إلى كل من تنبكتو وتيشيت.

وبعد طلب حافل للعلم عاد إلى أرضه فتصدر للتدريس والإفتاء، ولم يلبث أن ذاع صيته هناك، لاسيما في النحو والآداب وعلوم اللغة، حيث يذكر العلامة الطالب أحمد بن ديده الجماني أن الشيخ محمد الاغظف هو أول من اعتنى بتدريس احمرار ابن بونه على ألفية ابن مالك في النحو، ونشره في بوادي الحوض، وأن معظم من اشتهر بتدريسه في تلك المنطقة كان من تلامذته مباشرة أو بواسطة. وكانت محظرته عامرة في العشرية الأخيرة من القرن الثالث عشر، ومن أبرز من أخذ عنه فيها العلامة محمد الخضر بن مايابى الجكني الذي اتصل به سنة 1298هـ فأجازه في قراءة نافع، وأخذ عنه عددا من المتون الفقهية،ومحمد الأمين بن إبراهيم، ومحمد المختار بن اكاي، وأحمد بن محمد آبه الجكنيون، والشيخ سيدي محمد بن إلياس الجماني وغيرهم.

ورحل العلامة محمد الاغظف إلى المشرق فحج ورجع إلى بلاده، ثم حج ثانية، وثالثة. ودرس في الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وكانت له مطارحات علمية وأدبية بالمشرق ولقاءات مع العلماء هناك.

وفي طريق عودته الثالثة من الحج التقى في المغرب بالسلطان الحسن بن محمد سنة 1311هـ/ فأعجب بعلمه، ورغب إليه في تعليم أهل بيته من الأمراء وفي مقدمتهم ابنه الأمير عبد الحفيظ الذي لازمه ونهل من علمه، وأعجب به أي إعجاب، وتبوأ محمد الاغظف في تلك الفترة مكانة مكينة بين علماء المغرب أهلته لحمل لواء الفتوى القاضية بخلع المولى عبد العزيز بن الحسن ومبايعة أخيه المولى عبد الحفيظ الذي هو تلميذه سنة 1320هـ، وعينه المولى عبد الحفيظ بعد توليه مفتيا للديار المغربية، وأصبح بذلك بيت الشيخ محمد الاغظف مركزا علميا مقصودا يؤمه العلماء وطلبة العلم من مختلف مناطق المغرب، وملاذا للوافدين من علماء شنقيط ومشاهيرها.

وكانت ميزات العلامة محمد الاغظف التي لفتت انتباه من كتبوا عنه من أعلام المغرب فقهه الواسع، وتبحره في اللغة والأدب والشعر، ثم عبادته الدائبة، وورعه الفائق. فهذا السوسي في كتابه “المعسول” يسرد في معرض حديثه عن الشيخ ماء العينين القلقمي الشنقيطي قصة تشهد له بالورع التام والإقبال الدائم على الله، حيث يقول: “وحدثني الباشا منُّو أيضا قال رجع الشيخ ماء العينين إلى مراكش حين كان مولاي عبد الحفيظ خليفة أخيه هناك، فوجدنا هبت علينا نسمات من الحياة الجديدة العصرية, وقد تزلزل اعتقادنا فيه (…) قال الباشا: ومن الشنگيطيين عالم ورع إلى الغاية لم أعهده يرسل لسانه في أحد يسمى محمد الأغظف، وهو من الذين يصاحبهم الخليفة مولاي عبد الحفيظ ويؤلفون له ويذاكرهم في مجالسه العلمية, وحين أكثر الناس في انتقاد الشيخ ماء العينين, أقبلت أسائله عن أحواله, فأشار إلي أن أشتغل بذات نفسي” (المعسول/ 4/ 84).

وهذا القاضي العباس بن إبراهيم السملالي صاحب “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” يصفه بأنه “الفقيه البركة الناسك، الشيخ العلامة الأورع المشارك، الذي لا ينفك عن ذكر الله، المعود لسانه دائما كلمة لا إله إلا الله، شيخ الأخيار والأمراء والكبار والعرفاء” (الإعلام 7/ 218).

أما العاهل المغربي المولى عبد الحفيظ فتحدث عن شيخه بعاطفة جياشة فيكتابه العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل واصفا إياه بأنه شيخه “الولي الصالح والقطب الواضح، ذو التآليف العديدة، والفوائد المفيدة، والقدم الراسخة في معرفة الله عز وجل سيدي محمد الاغظف، حج وهاجر واعتكف، وقام من آناء الليل نصفه أو كله، رجل من أهل الجنة على وجه الأرض، لا غل ولا حقد ولا حسد ولا غيبة، إذا زنته بقول الله تعالى كان ذلك له مقاما” (العذب السلسبيل/ 3).

وكان مع علمه معدودا في الشعراء، يذكر المؤرخ المغربي عبد الوهاب بن منصور الذي راجع كتاب الإعلام وقدمه للنشر أن السملالي ترك قدر ثلاث صفحات بيضاء في ترجمته ليضمنها نماذج من شعره لكن ذلك لم يقع(الإعلام 7/ 218).

ونال محمد الاغظف الحظوة التي لا مزيد عليها لدى تلميذه ملك المغرب المولى عبد الحفيظ وأعيان الدولة المغربية. فكان عونا للشناقطة الذين يفدون إلى تلك الديار وبابهم الذي يدلفون منه إلى السلطان، وفد عليه أبناء مايابى : محمد العاقب ومحمد حبيب الله ومحمد الخضر رفقة ابن عمهم البيضاوي إلى المغرب، فقدمهم محمد الاغظف إلى السلطان وحضرته فقربهم السلطان وأكرم وفادتهم. وانضم محمد الخضر إلى علماء القصر مع شيخه محمد الاغظف كما أشار إليه السوسي في المعسول، قبل أن يهاجر إلى المشرق. أما البيضاوي فلازم الشيخ محمد الاغظف إلى أن تبوأ مكانة خاصة عند السلطان الذي قربه وآل به الأمر إلى تعيينه قاضيا ثم باشا لتاردانت فقام بباشويتها أحسن قيام وكان أديبا شاعرا مفلقا.

وحبس المولى عبد الحفيظ -كما قال القاضي السملالي في كتابه الإعلام- على شيخه “محمد الاغظف وعلى ولده محمد عبد الله وعقبهما ما تناسلوا وامتدت فروعها جميع البياض المسمى بأرض سيدي أحمد الرحالي بتسلطانت وبوره وجميع أربع فرديات عن كل عشرة أيام من ساقية تسلطانت حبسا مؤبدا وتضمن الظهير الحفيظي تحديد الأرض المذكورة وبورها وهي نحو ألفي هكتار”(الإعلام 7/ 218).

لكن الفرنسيين استرجعوا هذه الأرض بعد تخلى المولى عبد الحفيظ عن الحكم، فالشيخ محمد الاغظف كان من ألد أعدائهمومعارضي وجودهم بالمغرب، وكان يحرض على مقاومتهم، ويرفض الاعتراف بسلطة فرنسا على المغرب بعد نفي السلطان عبد الحفيظ، مما جعل الجنرال الفرنسي اليوتى يأمر بوضعه تحت الإقامة الجبرية بمراكش، إلى أن توفي، وكانت وفاته حدثا مشهودا في المغرب، ودفن بروضة الإمام السهيلي، أحد السبعة رجال. قال السملالي في الإعلام: “توفي بمراكش في شوال عام 1337هـ ودفن بروضة الإمام السهيلي، وقام أهل المدينة بتجهيزه قياما عجيبا، واجتمع عليه خلق كثير، وجم غفير، كبراء وأجلاء وغيرهم.” (الإعلام 7/ 219) ورثاه خلق كثير في مقدمته تلميذه وابن عمه الباشا البيضاوي باشا تاردانت.

أما مؤلفاته التي أضاعت الأوضاع السياسية المضطربة أغلبها فاشتهر منها شرحه المحكم لمنظومة “السبك العجيب لمعاني حروف مغني اللبيب” التي ألفها تلميذه المولى عبد الحفيظ، وطبع بمصر في عهده، ووضع عليه علي بن مبارك الروداني حاشية أسماها “فتح الصمد على شرح محمد الاغظف بن أحمد” وصف في مقدمتها محمد الأغظف بـ “الفقيه العلامة، البحر الفهامة، المشارك في جميع العلوم المنثور منها والمنظوم”..

ولأن العلامة محمد الأغظف كان يدعى أحيانا بالولاتي فقد تسبب ذلك في نسبة العديد من كتب التراجم وفهارس المكتبات هذا الشرح للعلامة محمد يحيى الولاتي خطأ، واعتمد هذه النسبة عدد من مترجمي الولاتي، وموثقي المكتبات الالكترونية التي تحتوي على نسخ من هذا الشرح. وربما كان السبب في هذا الخلط هو كون محمد يحيى الولاتي كان قد ألف في صغره نظما لمعاني حروف مغني اللبيب. والشرح لمحمد الاغظف كما نص على اسمه في العنوان محشيه الروداني وذكره غير واحد من العلماء. وهذا الكتاب هو أول مؤلف شنقيطي يعرف طريقه إلى الطباعة حيث طبع 1325هـ، يليه في ذلك الوسيط في تراجم أدباء شنقيط الذي طبع سنة 1329هـ.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى