حلقات من “محطات رحلتي إلى الطب” للدكتور”حم”

هذه المقتطفات الممزوجة بالنكات قسمها دكتورنا الأديب “حم” حفظه الله إلى حلقات وسماها “سلع ملع” وهي كناية قلة الحلقة ترغيبا – ربما – في مايأتي من القصة التي تشي بأنها ستكون سيرة ذاتية موثقة جديرة بالقراءة..تحكي عن طريق شاق لطفل أصبح طبيبا وإنسانا ناجحا يشار إليه بالبنان ضمن القلائل الذين جمعوا الكثير من الخصال الحميدة دون ان يؤثر ذلك على نجاحهم في حياتهم وتفوقهم في مهنتهم، وذللوا الصعاب بإرادة قوية وعزيمة لاتلين.. وتتميز بوجود وثائق مهمة ربما تنفض الغبار عن تلافيف ذاكرة البعض من زملاء وأصدقاء الدكتور، ليكتب لنا هو أيضا عن “أطار” مسقط رأسه وعن ولاية آدرار ما يشفي غليل هواة الرواية والقص..مبروك لنا وللدكتور هذا المولود الجديد.

الزمان أنفو ـ حلقة اليوم “الأخيرة” من سلسلة “سلع ملع” هي بمثابة تحية لكبير محفل “البيلنغ” الموريتانيين زايد محمد . و لكي لا “انسحفيكم” فسنبث مقاطع من فقرة “من هنا و هناك” و هي فقرة في نهاية المذكرات تحتوي علي قصص قصيرة و مواقف كنت تعودت توثيقها خلال حياتي المهنية: منه الطريف المضحك و منها المحزن و منها ما يبعث علي التأمل في تدبير الله.

مسابقة دخول الإعدادية
كانت أكثر نقاشات تلك السنة، تدور حول الاختيار بين الشعبتين : العربية (حيث تدرس كل المواد، بما فيها العلمية، باللغة العربية) و المزدوجة (“بيلنغ ” حيث يدرس كل شيء بالفرنسية باستثناء اللغة العربية و التربية الإسلامية).
أخذ النقاش أحيانا كثيرة منحى عاطفيا و تدخلت التيارات السياسية خاصة القومية و الدينية، مقدمة الدراسة باللغة الفرنسية على أنها امتداد للاستعمار و سلب للهوية، إن لم تكن مخرجة من الملة.

على المستوي الشخصي، لم يكن بمقدوري كمراهق، أن أعي أبعاد المسألة، مع أني كنت أميل إلي العربية، ولدي سابقة في الخوف من “النصاري “.
ففي العام 74، كنت مع الوالدة، خارجين من سوق أطار، و حين وصلنا أمام “مسجد همدي “، و كانت تمسك بيدي، أفلت من قبضتها و قطعت الشارع جريا في اتجاه منزل المرحوم الدي ولد سيد باب (و كان يأوي ساعتها مكاتب الإدارة الجهوية للضرائب)، فإذا بسيدين فرنسيين يجلسان أمام المكاتب، ففزعت منهما و قفلت راجعا بنفس السرعة فصدمتني سيارة R4. نقلت إلى المستشفي، و كانت الأضرار، من لطف الله خفيفة.
تم إيقاف السائق ثلاثة أيام، بعدها أخبرونا أن أفرادا من الشرطة و معهم سائق السيارة سيزوروننا. أتذكر كلمات الوالد رحمه الله، و هو يوصيني: حين يأتي أفراد الشرطة، قم بسرعة، لتريهم أنك بخير لكي يطلقوا سراح المسكين.
لكن قرار التوجيه، كان بيد الوالدة، رحمها الله، و رأت، أن تسبح عكس التيار و قررت اختيار “بيلنغ”. ربما كانت متأثرة بإحدى القريبات، تردد دائما : “لو كنت نعرف الفرنسية، انتم انوفي بيها تسبيح صلاتي “.
فبالنسبة لها، نحن نعيش في بيئة عربية إسلامية، و عليه فان العربية حاضرة في حياتنا، و لن نعدمها، شئنا أم أبينا، بينما تعلم الفرنسية، سيشكل لا محالة إضافة جديدة في حياتي و نمط تفكيري.
و قد شكل هذا الاختيار الصائب إلى أبعد الحدود (من وجهة نظري) ، حدثا مفصليا في حياتي، حيث مكنني من اكتشاف و تعلم لغة غنية و جميلة (الفرنسية) دون التفريط في لغتي العربية، لغة القرآن.
تجري المسابقة (كونكور )، في نهاية الشهر السادس، و تدوم يوما و نصف يوم، تحضر الأمهات لرفع معنويات التلاميذ، تأتين وهن مصحوبات ببعض المأكولات و “اشنين الشكوه البارد”. تصادف يوم “كنكورنا” مع وجود ضيوف، فلم تستطع الوالدة القيام بهذا التقليد، فتولت مهمة إطعامنا و “سقايتنا” ، المرحومة فطمة مرزوك والدتي من الرضاعة و والدة أخي جمال البنين.
خرجت النتائج، و علقت بمكاتب الإدارة الجهوية للتعليم. كان ترتيبي علي ولاية آدرار، الثالث ، خلف المرحوم أحمد دداه أحمد محمود (توفي في مفوضية الشرطة، خلال موجة اعتقالات سياسية طالت الناصريين سنة 1984) و المهندسة فاطمه ميناط (تحولت بعد الإعدادية إلى التعليم الفني رفقة الأخوين : الوزير ماء العينين أييه و جمال البنين إطار في شركة اسنيم ).
ثانوية أطار، من أعرق و أقدم المدارس الثانوية في الوطن، يوجه إليها الناجحون من أطار و شنقيط و أوجفت و وادان و ازويرات و اكجوجت و بعض تلامذة انواذيبو.
تلميذ السنة الأولى إعدادية، يسمي “ابلو ” (رافد كرطابلو )، هو في الغالب مراهق (أرويكيج )، يملك “دراعة ” أو اثنتين وله “سراح من نوع أفرو ” و يشتري “أصبع” دخان ب ثلاث أواق و اثنين بخمسة. يستمع إلى أغاني أم كلثوم و عبد الحليم، لا يفوت نشرات البي بي سي. و فرنسا الدولية و في نهاية الأسبوع، يهبط جنوبا نحو حي “كنوال” أو يصعد شمالا نحو حي “امباركه و أعمارة” في جولة (تسديره) تنتهي في ساعة متأخرة، ثم يعود منهكا ليجد لقمة باردة من الكسكس ، يتناولها ثم ينام.
كنا، “أهل الشعبة المزدوجة”، مقسمين على ثلاثة فصول، مقابل ثمانية من “أهل العربية” (لزارابيزاه كما كان يحلو للمراقب ابه ولد مري تسميتهم).
و أدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح

تحية لبعض جنود الخفاء
قبل مغادرة ثانوية أطار، لا بد من الإشادة بالدور المهم و الأساسي للطاقم الإداري الذي كان يلعب أدوارا، لا يستهان بها في التأطير و تهيئة الأجواء الملائمة للدراسة:
1) المرحوم أحمدو ولد ممون، المدير الوحيد الذي عرفناه خلال سنوات دراستنا، و الذي كان حاضرا بنصحه و توجيهاته.
2) ابن الخال و الوالد إسلم و لد الشيخ ولد عبد القادر، الذي شغل منصب المراقب العام.
3) أبه و لد موري: رجل منا أهل شنقيط، رياضي كبير، مراقب و في نفس الوقت مترشح دائم لباكلوريا العلوم الفرنسية، يسمي جميع البنات “أخويديجتوات”، كثير النقاشات، “امعمر الزر الخاوي” دائما، و في نفس الوقت طيب القلب، أكبر مذمة عنده أن يصفك ب”عربيزاه”. تحول لاحقا إلى المعهد التربوي الوطني و لا يزال متمسكا بالكثير من أفكاره.
4) المرحوم الأديب ببانه، جارنا، و نعم الجار، عليه مسؤولية الباب و توقيت الدخول و الخروج و التنبيه عند نهاية كل ساعة، و كان مخلصا و متفانيا في عمله.
5) الزين ولد عمار: السائق الوحيد في الثانوية. مكلف بإيصال الأساتذة من و إلى مساكنهم في باص الثانوية الأزرق. أطال الله في عمره
6) المرحوم يورو: عمل في القسم الداخلي للثانوية (L’internat). لا يتكلم الحسانية، علي عكس بناته “المسرسرات”، له ولد وحيد، اسمه محمد، دخل الجيش، و قد بلغني أنه توفي رحمه الله.
7) المغفور لهما أعمر ولد الحاج و أشوينه بارداس، المقتصدان
😎 المغفور له، الوالد محمد عبد الرحمن عبد القادر، الذي كان وكيلنا الدائم أمام الإدارة، كلما اقترف أحدنا ذنبا يستدعي حضور ولي الأمر.
9) و آخرون،…..

اضغط هنا لقراءة حلقات سابقة:

من “محطات رحلتي إلى الطب” للدكتور”حم” (الحلقة5،و4)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى