العطلة والتستر على الألم

كتب ديدي ولد محمد

الزمان أنفو -في زمنٍ تحكمه الصور اللامعة والمنشورات المنتقاة بعناية أصبحت العطلة بالنسبة لكثيرين أكثر من مجرد استراحة، تحولت إلى مشهد استعراضي يتخفى خلفه تعبٌ دفين وهمٌ مكبوت وربما جرحٌ لم يندمل.
نغادر الأماكن بحثًا عن الراحة، لكننا في كثير من الأحيان لا نغادر أنفسنا نسافر، نبتسم، نشارك اللحظات الجميلة بينما الحقيقة قد تكون شيئًا آخر تمامًا، هروب من واقعٍ خانق أو سعي لإثبات شيء لا نملكه أو مجرد محاولة لإقناع الذات بأننا بخير.
هذا المقال ليس دعوة لترك السفر بل دعوة لفهمه… أن نعيد ربطه بالراحة الحقيقية لا بالتمثيل والتستر على على امراض المجتمع.
ظاهرة مقلقة بدأت تفرض حضورها الثقيل كل سنة لا تقودها الحاجة إلى الراحة بل تسوقها حُمّى التقليد وسباق الصيت لم يعد السفر ترفيهًا ولا ترويحًا بل عبئًا اجتماعيًا مقنّعًا يتسلل إلى الأسر في هيئة استراحة وهو في الحقيقة استنزاف للجيب وإرهاق للنية وتعطيل لعجلة التنمية الاقتصادية في البلاد.
في مجتمعاتٍ لا تزال العلاقات فيها متشابكة كخيوط سجادٍ قديم تصبح العطلة الخارجية أكثر من قرار عابر. إنها طقسٌ اجتماعيٌ حساس، تُوزن فيه الكلمات، وتُقاس به المقامات أسرة ذات مقدرة تعلن وجهتها إلى إحدى العواصم البراقة فيتحرك خلفها آخرون لا يملكون ما يكفي لكنهم لا يحتملون نظرة أين ستقضون عطلتكم؟
هكذا ومن غير قصد تدفع المنافسة الصامتة أسرًا بأكملها إلى خيارات تفوق إمكانياتها لا حبًا في الترحال، بل خشية من الإحراج، أو جريًا خلف صورة اجتماعية مصنوعة. وفي خضمّ هذا اللهاث، تختل التوازنات، يتراجع القرار، ويهتزّ الاستقرار، ويُنهك الرجل البسيط بين واجب البيت وضغط المظاهر بل يجد نفسه سجينًا لمنطق المقارنة، وأسيرًا لمواسم المفاخرة. فيما تتقدّم بعض النساء نحو زمام القرار لا من باب الشراكة الحكيمة بل تحت شعار “المكانة الاجتماعية” و”الصورة العامة” التي يجب أن تُصان ولو على حساب الاستقرار والواقعية.
هكذا تتحوّل العطلة، من فرصة للراحة والوصال، إلى مرآة عاكسة لأوهام اجتماعية، تُكلّف أكثر مما تحتمل الجيوب، وتترك أثرًا لا يُمحى على النفوس والعلاقات.
لكن أليس في كل هذا مجافاة لجوهر الراحة وتنكّر لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي؟
ألسنا بحاجة اليوم إلى إعادة تعريف مفهوم العطلة الصيفية لا على أساس المكان بل على أساس القيمة والمعنى؟
الوطن أولى بالعطلة
في بلد يزخر بالمواقع الطبيعية الخلابة، من الشواطئ إلى الجبال والصحارى والواحات، وفي وطنٍ يضم تراثًا ثقافيًا متنوعًا تُهدر الملايين من العملات الصعبة في الخارج سنويًا تحت شعار “الاستجمام”، بينما بإمكان هذه الأموال أن تصنع فرقًا حقيقيًا داخل الوطن.
السفر الداخلي لا يقل قيمة عن السفر الخارجي بل يُعد خيارًا وطنيًا راقيًا بآثاره المتعددة:
أثر اقتصادي مباشر: إنفاق الأموال داخل البلد يُنشّط الاقتصاد المحلي، ويُنعش قطاعات النقل، والفندقة، والمطاعم، والحرف التقليدية، ويُوفّر فرص عمل موسمية لمئات الشباب والعائلات محدودة الدخل.
أثر اجتماعي وإنساني: حين تختار الأسرة قضاء عطلتها داخل البلاد فإنها بشكل غير مباشر تساهم في توزيع الثروة وتكون سببًا في إدخال السرور على قلوب كثيرين بدءً من سائقي الأجرة إلى بائعي النعناع،بائع الألبان وصولًا إلى أصحاب الفنادق الصغيرة. إنها بمثابة صدقة جارية، تُطعم الطعام وتُحيي الأماكن وتبعث الأمل.
أثر ثقافي وتربوي: التعرف على الوطن التجوّل في أرجائه وسرد قصصه للأبناء هو ترسيخ للانتماء وتقدير للجمال الداخلي وهو ما لا تتيحه العواصم البعيدة ولو كانت ساحرة.
دعوة لإعادة التوازن
الراحة الحقيقية لا تأتي من فخامة الفنادق أو المسابح ذات الإطلالة الجميلة بل من صفاء النفس وصدق النية والقدرة على الانسجام مع الذات..
إننا اليوم في أمسّ الحاجة إلى خطابٍ يزيح عنا غبار الاغتراب الداخلي ويكفّ عن مطاردة بريق المدن البعيدة، لنعود إلى ما هو أقرب وأصدق. إلى ظلال النخيل الوادعة، ورائحة اللحم على نار الحطب وصوت ضحكات الجدات تتردّد في باحات البيوت الطينية التي احتضنت طفولتنا الأولى.
نحتاج إلى خطابٍ يعيد للعطلة الوطنية معناها النقي فلا يجعلها مناسبة للفرار من الجذور بل فرصة للرجوع إليها. خطابٌ يُذكّر بأن العطلة زمنٌ للوصل لا للفصل، للتجذر لا للتباهي، لغرس حبّ الوطن لا لنثر المال في أرصفة الغربة.
خطابٌ لا يشتري الراحة من الخارج بل يصنعها من دفء الداخل.
ينهض الفقهاء الصادقون وأئمة المساجد الأمناء بدور الأنبياء في زمان الغفلة يذكّرون القلوب بأن النعمة ابتلاء وأن البركة في القُرب لا البُعد، وفي البذل لا البهرج، وفي خُبزٍ يُشبع جائعًا على أرضك، خيرٌ من موائد تُقام تحت أضواءٍ لا تعرف اسمك. يزرعون في الناس يقينًا بأن في المال حقًّا للسائل والمحروم، وأن البذخ في غير وجهه ظلمٌ، لا رفاه.
فلنُعيد الاعتبار للعطلة، لا كترف موسمي، بل كفُسحةٍ روحية ووطنية، نُرمم فيها علاقتنا بالأرض، ونحكي لأطفالنا عن ماكان يفعل اجدادهم في هذه الأرض الساحرة و نمنح للوطن ما يستحق من تقديس ونصون هذا الإرث الجميل الذي كاد أن يندثر لمحبيه ونمنح الوطن ما يستحق من حضور في أيامنا الجميلة، بدل أن نُهدر خيرنا على شواطئ الغير، ونحرم البائس الفقير -الذي يئنّ في صمت – من بقايا فُتات الطعام لا لحاجة حقيقية، بل لهدف واحد: أن يُقال “فلان أنفق، وسافر، واشترى، وعاد”
تحياتي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى