المذكرة الصغيرة – مشهد من الذاكرة

عبدالله محمدبون

الزمان أنفو _ حين كنتُ أحدّق في سقف غرفة خلال إحدى زياراتي لشنقيط، في موسم التمور (موسم الگيطنة)، عرفته على الفور، رغم أنني لم أره منذ عقود. سقف من “مدري وبلانش”، جلبه أحد أخوالي يوم كانت خالتي الغالية تُشرف على بناء البيت قبيل مولدي. إنه سقف بيت جدتي –رحمها الله– المكوّن من غرفتين، بل سقف غرفتها تحديدًا. تلك الغرفة التي علّمتني فيها الأبجدية، ودرّستني القرآن مع عشرات أبناء الحي. هناك عشنا ردحًا من الزمن.

ذلك السقف أعاد إليّ ذكرى بعيدة: اجتماع سرّي حضرته وأنا في الصف الأول الإعدادي، ضمن خلية صغيرة كنت أنتمي إليها آنذاك. كان مسؤول الخلية يشرح لنا أدبيات وأهداف ومبادئ التنظيم الناصري، فيما كان الطلاب في البلدة ينادون أيّ تلميذ ينجح في مسابقة ختم الدروس الابتدائية بلقب: (أبلو رافد كرطابلو).

ولمّا طالعتُ لاحقًا وثيقةً نادرة يرويها أنس دنقل –شقيق الشاعر أمل دنقل– عن جمال عبد الناصر، أحسست أن مشهد سقف جدتي واجتماع الخلية استعادا روح تلك المرحلة بكل تناقضاتها. يحكي أنس دنقل أنه كتب رسالة إلى عبد الناصر عام 1963 يصف فيها معاناة أسرته التي فقدت أرضها بعد قانون الإصلاح الزراعي، فاستجاب عبد الناصر شخصيًا للرسالة، وأوفد المقدم شعراوي جمعة للتحقيق في شكواه، ثم صدر بعد ذلك قانون يمنح معاشًا استثنائيًّا لأسر الموظفين المتوفين قبل الثورة.

شهادة أنس دنقل –المعارض لثورة يوليو– تكشف حساسية عبد الناصر تجاه معاناة الناس، وقدرته على تحويل شكوى فردية إلى تشريع عام. وهي تذكير لي بأنّ الحلم الناصري الذي كنا نناقشه سرًّا في غرفة صغيرة تحت سقف من “مدري وبلانش”، كان أكبر منّا ومن تلك الجدران، وأنه ما زال حيًّا في الذاكرة.
سبتمبر _ 2025
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى