من مذكرات الراحل المختار ولد داداه(يتحدث الراحل عن ذويه وإخوته الأشقاء وغير الأشقاء)

طفولـة بدويـة ديسيمبر1922

ديسمبر 1934 ولدت تحت خيمة مضروبة على الكثيب الواقع إلى الجنوب الشرقي من مركز أبى تلميت الإداري. ويوازى ذلك الكثيبُ الكثيبَ الذى شُيِّد عليه هذا المركز، ويفصل بينهما وَهْـدٌ يربو عرضه على الكيلومتر.أما تاريخ ميلادى فلا أعرفه بالضبط لكون “الأهالى” لم تكن لديهم حالة مدنية مضبوطة. كما أننى لم أعمل فى يوم من الأيام على معرفة هذا التاريخ معرفة دقيقة.

يبد أننى أعرف أن الأمر يتعلق “بعام النكَظة الباردة فى منطقة بوتلميت الذى تلا عام الكَيْتِ”، أي عام ظهور الأوراق النقدية. وتوافق هذه الإشارات سنتي 1920-1922. ولم يتسن لى، بعد العودة إلى البلاد، أن أدقق فى تاريخ ميلادى وأحدده بدقة.وعليه، فإننى أتوفر على تاريخي ميلاد هما: 1920 و 1924. ولسائل أن يسأل: لم هذان التاريخان المختلفان؟ فالتاريخ الأول هو الموجود فى سجلى المدرسي (مدرسة بوتلميت الابتدائية ومدرسة ابلانشو Blanchot بسان لويس)، ثم فى ملفى كموظف بالإدارة الاستعمارية. فهل يعنى ذلك أنه التاريخ الصحيح؟ هذا ما كنت أعتقد. وحين استأنفت دراساتى بنيس Nice، فى ظروف سأعود إليها لاحقًا،احتجت سنة 1949 لعقد ازدياد أكمل به ملف ترشحى للجزء الأول من شهادة الباكلوريا. وقد كتبت إلى زميل فى الدراسة، كان وقتها سكرتيرًا فى إقامة بوتلميت، أطلب تلك الشهادة. فأرسل إلي “حكما يحل محل عقد ازدياد” – على ما اعتقد – موقعا من قبل المقيم وبشهادة شاهدين أحدهما قاضى بوتلميت الرسمي.

ويقضى ذلك الحكم بأنى مولود فى 1924. وهكذا أصبح عمرى من المنظور الإداري أصغر من عمرى الفعلي بسنتين أو أربع سنوات! ولم يكن لدي وقت للتأكد من أي التاريخين “أدق” نظرا لبطء المراسلات بين فرنسا وموريتانيا، ناهيك عن الروتين الإداري بمنطقتى الأم، وضرورة الإسراع بتجهيزملفى. وقد أثبت تاريخ 1924 فى شهاداتى فأصبح، بالتالى، تاريخ ميلادي الرسمي. وعلى أية حال، فإن زيادة أو نقصان ثلاث أو أربع سنوات لا عبرة بها بالنسبة لي.

أما ذوي فينتمون، بمعنى من المعانى سأبينه لاحقا، إلى قبيلة أولاد أبييري الكبرى، حتى لا أصفها بالكونفدرالية القبلية. وتعتبر هذه المجموعة أهم مكونة قبلية فى مقاطعة أبى تلميت من الناحية العددية.

وهي حربية مع الحربيين وزاوية مع الزوايا. فجدها الجامع، أبييري، لا خلاف فى أصله العربي. ولذا، فإن المنحدرين منه يعتبرون عربًا حسب الاصطلاحات الوظيفية الموريتانية. إلا أن هؤلاء لم يكتفوا بحمل السلاح كما هي الحال بالنسبة لمعظم القبائل العربية – أو الحربية – الموريتانية. فقد تفقه العديد من عناصرها، واشتهر منهم علماء أجلاء تجاوز إشعاعهم حدود منطقتهم بل وحدود موريتانيا الحالية. وعليه، فإن المنحدرين من أبييري يعتبرون زوايا أيضا. فوالدى محمدٌ، رحمه الله رحمة واسعة، المتوفى فى مايو 1973 بأبى تلميت، ينتمى إلى أسرة أهل محمد مختار ذات المكانة العلمية المحترمة فى أولاد انتشايت. وهو خامس من عاش من أبناء داداه وأصغرهم سنًا. أما إخوته فهم: شيخنا، والمختار، ومحمد حرمه، ومولود. وقد توفي هؤلاء الأربعة كما توفي أحمدُّوولد أباه، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة. وتدعى أختهم الوحيدة – وهي الأسن – مريم، والدة أحمدُّو ولد اباه ترب والدى، والذى كان بالنسبة لى عمًا خامسا. وكانت جدتى من أبى، ذات الدين بنت منيه، هي الأخرى من أولاد انتشايت. وينتمى أهل محمد مختار إلى أهل حبّش الذين هم بطن من بطون أولاد انتشايت. وإذا كان هذا الفخذ ذا مكانة متميزة بين صفوف أولاد أبييري بفضل ما تمتعت به أسرة أهل الشيخ سيديه من إشعاع روحي وثقافي وسياسي منذ الشيخ سيديه الكبير(1775-1868)، فإنه يقال إن هذا الفخذ لا ينحدر سلاليا من أولاد أبييري لأنانتشايت ليس ابن أبييري وإنما هو أخوه لأمه أو صهره. وإذا صحت هذه الفرضية، فإن أبييري جد أولاد انتشايت لأمهم …وقد أثارت هذه المسألة موفور النقاشات وأسالت الكثير من الحبر. وتحمل تسمية انتشايت سحنة بربرية لا غبار عليها، ويُنْمَى انتشايت إلى قبيلة تندغه الزاوية التى كانت تتكلم البربرية وتسكن الحيِّز الجغرافي نفسه الذى يسكنه أولاد أبييري، المعروف “بمنطقة الترارزة”. وعلى أية حال، فإن أولاد انتشايت يعتبرون أنفسهم من أولاد أبييري، ودرج الناس على اعتبارهم فخذًا من صميم أفخاذ أولاد أبييري . أما والدتى خديجة فهي من أسرة أهل محمود لابراهيم المحترمة، القاطنة فى أولاد انتشايت منذ القرن 19 إلا أنها لا تنتمى إليهم سلاليا. فجدى لأمى محفوظ ولدمحمود لابراهيم من قبيلة تيمركَيون. وتَنْسِبُ هذه القبيلة، البربرية التسمية، نفسها إلى الشرف. فخالي أحمدو ولد الدّنه لديه وثيقة تحمل شهادة عدد من العلماء على شرف جد تيمركَيون الجامع. وهم، على أية حال، قبيلة زاوية. ويبدوأنها عرفت فترة ازدهار خلال القرنين 18 و 19: فاتساع رقعة أراضيها من مراع ونقاط مياه فى ضواحى بوتلميت والمناطق الواقعة إلى الشمال والشمال الغربي منه تشهد على ذلك. فتيمركَيون هم الذين وهبوا بئر أبى تلميت وأحوازها للشيخ سيديه الكبير – الذى بدأ دراسة القرآن عليهم- ليستقر بها ويشيد محضرته حين عودته أواسط القرن 19 من عند أهل الشيخ سيدى المختار الكنتي فى أزواد (شمال مالى الحالية). وهناك دليل آخر على ازدهار تيمركَيون – الثقافي هذه المرة- فى الفترة ذاتها يتمثل فى كثرة علمائهم آنذاك. ولم يعد هناك وجود لهذه القبيلة ككيان مستقل. فلم يبق منها إلا أسر يعيش بعضها فى أولاد أبييري والبعض الآخر فى قبيلة تاكَنيت القاطنة كذلك فى منطقة بوتلميت. أما جدتى من أمى، مَيَّهْ بنت المنفعه، فتنتمى إلى فخذ أولاد اعدجّه الأبييري السائر –هو الآخر- نحو الانقراض، إذ لم يبق منه إلا أسر معدودة. وإخوة أمي خمسة لم يعد منهم أحد اليوم على قيد الحياة، وهم: سيدى أحمد، وسيدى محمد، ومحمد، وأحمد، وهم أكبر سنا منها، ومحفوظ المكنى الداه الذى ولد بعد وفاة أبيه وسمي باسمه تبعا لتقليد موريتاني شائع.وقد توفيت والدتى رحمها الله تعالى رحمة واسعة فى 21 مايو 1986، كما توفيت أختها الكبرى فاطمة تغمدها الله برحمته الواسعة.واستمرت عشرة والديَّ أربع أو خمس سنين أنجبا خلالها ثلاثة أبناء كنت أولهم، ومحمد حرمه المتوفى قبل كمال أربعين يوما على ميلاده، أوسطهم. وكان أصغرهم أحمد الذى أكاد لا أتذكر ملامحه، وقد توفي فى الخامسة أو السادسة من عمره.وعليه، فإنه لا شقيق لى ولا شقيقة على قيد الحياة، ولدي إخوة من أبى وآخرون من أمى أحياء. فإخوتى من أبى هم: مريم، وعبد الله، ومحمد، وأحمد، ويعقوب وخديجة.أما إخوتى من أمى فهم: مريم، وأمامة، وأحمد. وقد تربيت فى كنف أخوالى حتى دخولى المدرسة فى سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة. وقلت إننى تربيت فى كنف أخوالى ولم أترب فى كنف والدتى فقط. وبالفعل، فإن جدتى وخالتى ووالدتى وثلاثة من أخوالى: محمد، وأحمد،والداه كانوا يعيشون فى حي واحد، ولم يكن قد تزوج منهم إلا الأول ولم يرزق حينئذ أبناء. فجدتى وخالتى وخالاي الأعزبان يعيشون فى خيمة واحدة، وخيمة لخالي المتزوج، وأخرى أعيش فيها مع والدتى. وأصبحت بعد وفاة أخى أحمد الطفل الوحيد لدى الأسرة، فأحاطنى الجميع بعطف وحنان خاصين، وأظهروا لى حبا لا متناهيا. واعتنت بى جدتى وخالتى مثل عناية والدتى بى.أما خالاي الأسنان، سيدى امحمد الذى لم أتعرف عليه إلا فى سن العاشرة أو الحادية عشرة، وسيدى محمد الملقب الدنَّه، فقد كانا متزوجين وكان لكل منهما عدة أبناء، إلا أنهم لا يعيشون معنا وإنما يسكنون منطقة شمامه على الضفة الموريتانية من نهر السينغال، وهي منطقة فيضية تزرع سنويا فى تلك الفترة.وكان هذان الخالان يبعدان عن منطقة ظعننا نحو مائة كيلومتر. وهذه مسافة كبيرة وقتها بالنظر إلى أن وسائل النقل المتاحة الوحيدة هي الدواب من حمير وثيران أو جمال بالنسبة للميسورين. ويحتاج المرء لثلاثة أيام أو خمسة من السفر تبعا لنوع وسيلة النقل المستخدمة، وما إذا كانت القافلة متجهة إلى شمامه أو عائدة منها. فهي أسرع فى الذهاب منها فى الإياب لأنها تعود محملة بالذرة إلى منطقة بوتلميت. ويُسيَّر هذا النوع من القوافل سنويا خلال موسم حصاد الذرة الذى يتم فى فصل الصيف. وقد اشتركت شخصيا فى قافلتين من تلك القوافل على مدى سنتين متتاليتين. وكنت أثناءهما أصحب خالي الداه الذى كان معلمى للقرأن. وتجدر الإشارة إلى أن الاشتراك فى هذا النوع من القوافل يتم حسب الظروف. فعادة ما يتفق أهل حي على تنظيم قافلة خاصة بهم. كما يمكن أن يتفق مسيرو قوافل من عدة أحياء على تشكيل قافلة واحدة إذا كانوا يتجهون إلى عين المكان ويبحثون عن البضاعة نفسها مثل البحث عن الذرة فى منطقة شمامه أو المناطقالمجاورة لها على امتداد النهر. وكان الناس يتفادون ما أمكن التفرد فى تسييرالقوافل لدواع أمنية وعملية.وكانت القافلتان اللتان اشتركت فيهما صغيرتين – على ما أذكر- إذ لا يتعدى مسيروها ثلاثة قواد أو أربعة، بمن فيهم خالى، ولديها عدد من الحمير، وجمل أو جملان. أما حضور الأطفال ممن هم فى سنى حينها فى تلك القوافل، فله غايتان أو ثلاث. فالطفل يقوم بما فى وسعه لمساعدة قريبه (رعاية الدواب أثناء مراحلالتوقف اليومي مثلا)، ويتعرف على هذا النوع من الحياة البدوية المغاير لما ألفه فى حيه من رعي المواشى وسقيها واحتلابها، وتوفير الماء والاحتطاب، وغير ذلك…. والواقع أن بعض هذه الأعمال يقام بها أحيانا أثناء السفر فى القوافل. وجملة القول، إن القافلة هي أحد أوجه مدرسة الصبر التى كان على الطفل البدوي أن يتمرس بها منذ نعومة أظافره. كما أنها تسمح له باكتشاف أماكن جديدة، ومناطق جديدة، ونمط حياة مغاير لنمط حياته، وبالذات نمط حياة مزارعى شمامه أشباه المستقرين. وأتذكر شخصيا مدى غبطتى باكتشاف “برك مياه لا تنضب” (أحد أفرع نهر السينغال)، وقوارب على النهر، وبداة يختلفون عنا: إنهم الفلان، أولئك المنمون السود الذين يتكلمون لغة غير لغتنا، ولديهم أبقار أضخم وأسمن من أبقارنا.كان ذلك بمثابة “اكتشاف آمريكا!” بالنسبة لى، ذلكم الاكتشاف الذى سأحدث عنه زملائى طويلا عند عودتى إلى الحي من رحلتى الأولى فى القافلة. وكنت بالنسبة لهم بطلا حقيقيا لمغامرة ما!!. كان لدينا آنذاك شعور ببعد كل ما يوجد وراء الكثيب الحاجب للأفق وغرابته والجهل به. فقد كان سكان شمامه بالنسبة لسكان منطقة بوتلميت عالما قصيا آخر! وهناك هدف ثالث تمكن إضافته إلى الهدفين السابقين لتسويغ مشاركة الأطفال فى هذا النوع من القوافل وهو مرافقة معلمى القرآن بالنسبة لصغار السن منهم، أو أساتذة العربية للأكبر سنا. فبوسع التلميذ استظهار دروسه على شيخه أثناء أي تحرك بدوي، سواء تعلق الأمر برحيل الحي من مكان إلى آخر، أو بتحركات القافلة التى كنا نتحدث عنها. فهو يستطيع على مدى ساعات مراجعة واستظهار دروسه على شيخه مشيا على الأقدام أو على ظهر دابة، أو أحدهما راكبا والآخر راجلا. فشيخه يستمع إليه ويصلح أخطاءه ويعطيه التفسيرات والتوضيحات اللازمةكما يفعل معه تحت الخيمة، والكوخ، والشجرة أو فى الهواء الطلق. لقد تربيت إذن فى كنف أخوالى حتى سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة كما أسلفت. وتبعا للمعايير السائدة وقتها، فإن هذه الأسرة كريمة تماما ونبيلة، وإن كانت منزلتها الاجتماعية متواضعة لقلة ما فى اليد بعد ذهاب الثروة التى تمتعت بها فى عهد جدي. فقد كان يملك الكثير من البقر والإبل، وحتى بعض الخيول. كما كان يملك العديد من المزارع فى شمامه تتولى أسر من “المسترقين” زراعتها بعد تراجع فيضانات نهر السينغال.غير أن ثروته – الحيوانية والعقارية – لم تعمر بعده. فقد هلكت المواشى جراء الأوبئة والجفاف وسوء التسيير… أما بالنسبة لمزارع شمامه، فإن مردودها قد تراجع شيئا فشيئا. وقد ارتبط ذلك التراجع بالتطور الاجتماعي لليد العاملة المسترقة التى بدأ مسار انعتاقها التدريجي بشكل خجول، لكنه بدأ على أية حال. وتمثلت بداية ذلك المسار فى تواني أولئك “الأرقاء” عن العمل، ومطالبتهم المشروعة بنصيب أوفر من الحصاد. وهؤلاء هم الذين كنت أتوجه إليهم، مع خالى الداه، بحثا عن الذرة بعد الحصاد الصيفي. وعلى أية حال، فقد تربيت فى وسط فقير، وإن كانت توجد فى الأحياء التى جاورناها، أثناء تنقلاتنا البدوية، أسر أشد فقرًا من أسرتنا.وتتمثل ثروة أسرتى من جهة الأم فى بضع بقرات، ورؤوس من الضأن والمعز، وعدد من الحمير، وجمل أو جملين. ولم يبق لديها وقت ذاك “عبيد خدمة منزلية”. فقد عرفت آخر “خادمة منزلية” لديهم هي العجوز رشيده التى توفيت وأنا أبن ثمان سنوات أو تسع. وكانت بمثابة جدتى الثانية، إذ كانت تحبنى مثلها حبًا جمًا. وكانت تساعد جدتي وأمى وخالتى فى الأعمال المنزلية. فقد كانت تتولى بوجه خاص الطبخ وإحضار الماء من البئر. وبعد وفاتها، أصبحت أسرتى تستأجر خادمة من الحي بإذن من “أسيادها” للقيام بالمهام نفسها التى كانت تقوم بها، أو علىالأصح ببعض عملها. ففى تلك الأثناء قمت شخصيًا أكثر من مرة برعي الغنم، وإحضار الماء والاحتطاب، وسقاية العجول والحملان والجديان عند الخيام، والاشتراك فى سقي الأبقار، والحمير، والغنم، والجمال عند البئر. وكنت عارفا بحلب المعز والضأن، ولا يسمح صغر سنى باحتلاب البقر. وينبغى التنبيه إلى أن منطقة بوتلميت التى لا توجد بها الدببة، لا تحتاج فيها الأبقار والحمير إلى الرعاية الدائمة. فالأبقار بعد ميلادها وخلال فترة حلابها، ترعى وترد على البئر وتعود مساء إلى الحي دون رقيب لتجد أولادها الخاضعين للرعاية، ويتم احتلابها بالليل، وبالصباح أحيانا خلال موسم الخريف الذى تتوفر فيه الأعشاب. وعندما ينتهى حلابها تعيش حياة شبه متوحشة فى الفيافى دون العودة إلى الحي، متنقلة بين المراعى والبئر. وكان البقر فى منطقة أبى تلميت الحيوان الداجن المفضل لأنه لا يحتاج فى تربيته إلى من يرعاه. وبالمقابل، كان منالضروري أن ترعى الغنم باستمرار لآن الذئب، الموجود فى مختلف المناطق الموريتانية، والضبع يتربصان بها الدوائر على مدار السنة بل وعلى مدار اليوم والليلة. وهناك السراق الذين من السهل على أحدهم أن يسرق نعجة أو عنزًا، فى حين يصعب عليه أن يسرق جملا أو بقرة أو حمارا داخل الحي على الأقل.وفيما يتعلق بالإبل، فإنه ينبغى التفريق بين نوعين منها. فهناك النوق الحلائب التى تجب رعايتها باستمرار وإلا لما عادت إلى الحي لأن فصلانها ترافقها. لكنها بعد انتهاء حلابها تعيش هملا، كمثيلاتها من الأبقار، بين مناطق الانتجاع والآبار التى اعتادت ورودها. وتجدر الإشارة إلى ميل الإبل الفطري إلى الهجرة تبعا للفصول واتجاه حركة الرياح. وهذا يعنى، مثلا، أن نوقا هملاً من منطقة أبى تلميت قد تتجه بمحض إرادتها إلى بئر سبق وأن شربت منها ذات يوم، وإلى منطقة انتجعت بها فى وقت من الأوقات ولو بعدت تلك البئر أو المنطقة عشرات أو مئات الكيلومترات.أما الصنف الثاني من الإبل الذى لا يتطلب رعيا دائما، فهو الركائب والنحائر. ويكتفى من رعاية هذه بتقييدها للحد من تنقلها عبر مسافات كبيرة، مما يجعلها لا تبتعد كثيرا عن الحي عادة. ويقتصر دور الراعى على تفقدها يوميا أو من كل يومين أو ثلاثة حسب الفصول ونوعية المراعى. وإذا ما ابتعدت الدواب عن الحي كثيرًا، يتم تقريبها منه. أما إذا عطشت فتفك قيودها وتورد البئر (وباستطاعة الإبل فى فصل الشتاء أن تهجر الماء شهرين أو ثلاثة أشهر لاسيما إذا كانت المراعى خضراء). وهذا الصنف من الجمال هو الذى سبق لى أن قمت برعايته تحت إشراف أخوالى.أما الحمير فلا ترعى على الدوام، وتعيش بحرية فى الفيافى، وترد البئر بنفسها. وقد يحتفظ بها مقيدة، مثل الجمال، على مقربة من الحي.ويُعتبر الحمار، رغم كونه الدابة الأشد هوانًا لدينا، أكثر وسائل النقل فائدة لدى البداة الرحل، فى منطقة بوتلميت على الأقل، الذين يستخدمونه يوميا. فهو عمدة عمال الآبار فى امتياح مائها الموجود على عمق عشرات الأمتار فى المنطقة. وتحمل عليه القرب يوميا من البئر إلى الحي، ومن الحي إلى البئر إذا كانت المسافة بينهما بعيدة. وتتراوح هذه المسافة، الفاصلة عادة بين البئر والأحياء المتمركزة حولها بين كيلومتر واحد وأربعة كيلومترات، فى منطقة أبى تلميت. وطوال مرحلة طفولتى السابقة على دخولى المدرسة فى نهاية 1934، ظلت أسرتى تتنقل إلى الشمال الشرقي والشرق والجنوب الشرقي من أبى تلميت، على مسافة تبعد منها ما بين عشرة كيلومترات إلى خمسين كيلومترا.فقد غادر مخيم جدي داداه ضواحى أبى تلميت المباشرة، بأسابيع قبل مولدى، للتمركز إلى الشمال الشرقي منها، قرب علب آدرس. وبقينا لسبع سنوات أو ثمان نتنقل حول تلك البئر. فقد كنا أصحاب “نجعة قصيرة” لا تتطلب إلا تنقلا على مسافات محدودة حول بئر واحدة أو بين آبار متجاورة. إنه نمط بداوة مربى البقر والغنم الذى يتطلب وجود مناطق تتوفر على آبار دائمة ومراع على مدار السنة. وهذا يعنى وجود مناطق تتساقط بها الأمطار سنويا، وإن كانت تعرف جفافا دوريًا كل عشرين سنة أو خمسا وعشرين لا يستمر أكثر من سنة أو سنتين. وكان هذاالنوع من البداوة هو السائد تقريبًا إلى الجنوب من خط العرض 18. ويضم هذا المجال، من الغرب إلى الشرق، بلاد الترارزة، والبراكنة، وجنوب تكَانت، وكامل غورغول، وجنوب العصابه، وكامل غيدي ماغه، والقسم الجنوبي من الحوضين.أما “البداوة الظاعنة” فيمارسها أصحاب الإبل الذين بوسعهم أن يجوبوا، أحيانًا، آلاف الكيلومترات جيئة وذهابًا على مدى أشهر، متنقلين من تيرس أو الزمور إلى شمال مالى الحالية ذهابا وإيابًا، أو من مناطق الترارزة والبراكنة إلى الصحراء الجزائرية. ويمارس هذا النمط من البداوة أساسًا فى مختلف مناطق إنشيري، وآدرار، وتيرس، والزمور، ونواذيبو…

من مدونة ساحل شنقيط

كتبهاhandhala ، في 16 يناير 2007 الساعة: 12:22 م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى