محمد سعيد ولد همدي بين الذكريات والألم

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ). (سورة الاحزاب، الآية 23) 

 

alt بلغني وأنا في الولايات المتحدة الأمريكية أن أخي وصديقي الفاضل المثقف الكبير محمد سعيد ولد همدي قد انتقل إلى مثواه الأخير.فإنا لله وإنا إليه راجعون.

إن قلبي ليقطر دما لوفاة الكاتب الصحفي الجليل والسفير المتميز والباحث الصبور. وأهم من ذلك كله لغياب هذا الوطني المخلص لشعبه ولبلده محمد سعيد ولد همدي. 

لقد ربطتني صلات وثيقة مهنية وثقافية بالمغفور له محمد سعيد ولد همدي وتقاطعت سبلنا مرات فكان نعم الصديق حتى انتقاله إلى جوار ربه.

 استدعينا إلى مهام في الرئاسة بعد العاشر من يوليو فكلف هو بالأمانة العامة  للرئاسة وعينت مستشارا مكلفا بمهمة. وكان  يجمعنا فريق يعمل ليلا ونهارا  لإنقاذ البلاد مما هي فيه. وكان محمد سعيد مقتدرا وحيويا ونشيطا وممتعا بأخلاقه وبثقافته الواسعة.

ولما كانت قضية الصحراء شغلنا الشاغل آنذاك فقد أعد عنها دراسة وافية وكلف مساعده المتميز المغفور له الوزير اليدالي ولد الشيخ بدراسة مستقلة عن الموضوع كقانوني وكرجل واكب تطورات المسألة منذ بدايتها. وشكلت تلك الدراستان دليلا بالغ الأهمية لنا في عملنا آنذاك. وما زلت أحتفظ بهما.

 وقد توطدت صلتي بالمرحوم لما عينت خلفا له سفيرا  مندوبا دائماً في  الأمم المتحدة  وسفيرا  فى كندا وكوبا. فما إن بلغت بذلك رسميا حتى توجهت إلي أخيه الأكبر محمد الهيبة شفاه الله بفضله وأطال عمره وأخبرته بالأمر وقلت له كان أخوك سعيد هناك  وأصبح أخوك محمد المحجوب هناك فصداقتنا فوق كل اعتبار. وقد استقبل محمد الهيبة الأمر بارتياح ومودة.

ولم أستعجل أبدا أخي محمد سعيد. ولم أتوجه إلى نيويورك  إلا أشهرا بعد التعيين حين أصبح  من الملح تقديم أوراق الاعتماد  للأمين العام والشروع في إعداد خطاب وزير خارجية بلادنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تقرر رسميا من يومها أن يكون باللغة العربية.

وكان المغفور له يتردد علينا في نيويورك ضمن الوفود الرسمية ويسكن في بيت صديقه وأخته من الرضاعة من أمه ومن أخته  وكنا سعداء بصحبته  لما يضفى على حياة  البيت من سعادة ومودة. 

ولما عدت بحمد الله إلى الوطن نهاية سنة 2007 بعد إغلاق النظام لعدة سفارات منها مندوبيتنا في اليونسكو التي كنت سفيرا فيها عمل المرحوم على إدماجي في النشاطات الثقافية في نواكشوط. وما كنا نستدعى  لنشاط ثقافي أو سياسي إلا وأشار إلى المشرف عليه باستدعائي للكلام. وكنت أحتج عليه فيجيب بين المرح والجد أن لا بد من ذلك.

ولما كان رئيساً للجنة حقوق الإنسان دعا كوكبة من المثقفين والمثقفات إلى اجتماع في مقره لينشئ هيئة تعمل على التقريب بين شعوب المغرب العربي وشعوب  شمال البحر الأبيض المتوسط ضمن مبادرة نسقها مع بعض أصدقائه في أوروبا. وحين أراد تشكيل مكتب لتلك الهيئة اقترح أن أكون نائبه في رئاسته فاعتذرت فأصر فتدخلت مطولا قائلا إنني أعدت نفسي إلى التعليم العالي والحاضرون يعلمون أنها مسؤولية شاقة وأنا منذ أكثر من ربع قرن أمارس مسؤوليات أخرى بعيدة عن عملي الجديد مما يتطلب منى أن أبدأ من الألف وإنني مسؤول وجدي وأعي ما أقول وليس لدي الوقت لأمارس أي نشاط آخر. رد محمد سعيد ملأ الله قبره نورا بجملة واحدة: نحن أيضا جديون ومسؤولون ونعي ما نقول فأنت نائب الرئيس. قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.

وكان آخر لقاء بيني ومحمد سعيد رحمه الله ليلا فى مكتبته قبل سفري حيث كنا وحدنا وتناولنا أمورا هامة تتعلق بالوطن كمسائل الرق والفئوية والأعراق والعروبة والعربية. وتوصلنا إلى أن أي مسلم صادق أو مثقف لا بد أن يكون ضد استغلال الإنسان للإنسان والذي يتجلى بأبشع معانيه في الاسترقاق. واستحضرنا قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

واتفقنا على أن أنجع السبل لإزالة آثار الرق هي تحسين وتعميم التعليم وإصلاح الإدارة والتنمية الشاملة التي تصل الجميع وتحافظ على وحدة المجتمع وانسجامه وتضمن له غدا أفضل. ورأينا أن ذلك لن يتحقق إلا بالعمل المنتج الدائب وبالإنصاف والاحترام المتبادل وسيادة العدالة فذلك ما يضمن الإخاء والمساواة والسلم الاجتماعي.   

وقد أكد لي رحمه الله ما كان يكرره دائما أنه عربي شديد الإعجاب بالحضارة العربية شديد الاعتزاز بلغتها وبقدرتها على الصمود. 

والحقيقة أن العروبة إنما هي نتاج روابط الحضارة واللغة والثقافة والمصالح المشتركة والمصير الواحد. وذلك هو حال البيظان أو العرب في موريتانيا.

ويا سبحان الله! كأننا كنا نتعاهد على الوفاء لهذا الوطن وما يجمعه أو لكأنه كان يوصيني به. وكما بدأت علاقتنا بالتفكير في مسألة مصيرية بالنسبة للبلد ها نحن نفترق بعد ليلة من المذاكرة في قضايا وطنية مصيرية أخرى تتعلق بوجود موريتانيا  ومستقبلها.

تعازينا الخالصة إلى  أسرة أهل همدي الفاضلة وما يرتبط بها من أسر كريمة وإلى أصدقاء المرحوم عبر العالم  وإلى جميع المثقفين والوطنيين الموريتانيين. .

اللهم ارحم محمد سعيد ولد همدي واغفر له وتجاوز عنه وابدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله إنك ولي ذلك والقادر عليه.

 

 

إنا لله وإنا إليه راجعون

 

الدكتور محمد المحجوب ولد بيه

(وزير وسفير سابق).

واشنطن السبت 22.يوليو.2015

– 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى