سيدي محمد ولد بوبكر الإبن المخلص لبلده

محمد حنفي- الكويتعندما ترحل الأم وتودع عالم الدنيا فان الكون من حولك يفقد الوانه و يصبح كل شيء باهتا في هذا الوجود. مثل نجوم (ساطعة) باغتها انبلاج الصباح ، تمضي أمهاتنا – الواحدة تلو الاخرى – إلى عالم الخلود و قد تركن وراءهن أجمل ما وهبن للحياة. كثيراً ما أنظر الى تلك الأجرام السماوية والقوافل اللامتناهية من الغيوم التي تجوب السماء كأنما ترسم صورا لشتى المخلوقات ،

فيخيل الي أن بين ظلالها أطيافا ترنو من بعيد الى أروع ما خَلّفته على هذه الارض . يقول الكاتب الفرنسي سانت اكسيبري : ” الأشياء الاساسية لا يدركها البصر”. () هكذا تطوى صفحات لتفتح أخرى و تلك (لعمري) سنة الحياة. يمضي الرعيل الاول ممن صنعوا هذه البلاد و بين تلك الحشود، تحضر في خيالي نساء بيض الايادي نقيات القلوب عُرفن بالفضل و التقى ، و تلوح لناظري صورةُ كريمةٍ ماجدة واكبت اللحظات الاولى لاستقلال بلادنا الى جانب أحد الموريتانيين الاوائل الذين احترفوا الهبوط من السماء ليسجلوا على أديم الارض حبهم لهذا الوطن : رجل المظلات بوبكر ولد بوسالف و زوجته -والداتنا و خالتي الكريمة – فاطمة منت بوبكر امبارك. كانت شجاعة عزيزة النفس أريحية. لقد رحلت عن الدنيا و لكنها تركت لموريتانيا أحد أبنائها الاكفاء الملتزمين بخدمة الدولة و الوطن . هو سيدي محمد ولد بوبكر كما يعرفه الآخرون و أحمد لوليد بالنسبة لنا نحن إخوته و أقرباؤه…بيد ان تلك قصة أخرى ليس هذا محل سردها… أقول ببساطة إن هذا الرجل يمثل رمز وفائنا لبلادنا التي قطعنا عهدا على أنفسنا ان لا نخونها ولا ناخذ منها ما ليس من حقنا. إن عبارات مثل نزيه، كفء، وطني …لم تعد تعني الكثير لفرط ما استعملت في أيامنا هذه، لذلك اتركها عن طيب خاطر للذين يشتهون الإطراء و يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا، فليس من عادتي ان أخوض في حديث يراد منه للقارىء ان يبتلع الطُّعْم والخيط والسنارة معا. في حياتي لم أتطرق قط الى الحديث عن هذا الرجل مع انه ابن خالتي بالاضافة الي كونه صديقا حميما، و اعلم يقينا انه عندما تسقط شجرة في صحراء خالية من أي كائنات مزودة بحاسة السمع , يكون الحديث عن (الضجة التي احدثتها) أمرا لا طائل منه و كلاما يصعب اثباته او مناقشته. لكن واجب الشهادة يدفعني اليوم الي كتابة هذه السطور التي أحرص على ان تكون مختصرة وخالية من أي اطراء. لقد كنت احد أفراد تلك العصبة من الاطفال التي ملأت لأول مرة شوارع مدينة انواكشوط الناشئة بصراخها و مرحها و ألعابها الجنونية بكل ما في الكلمة من معنى. أتذكر العديد من الاشقاء والاصدقاء الذين فرقتهم الأيام فتوزعوا على مختلف مناحي الحياة الوطنية و يمثلون جميعا مصدر فخر و اعتزاز بالنسبة لي. . سيدي المختار الشيكر، صديقنا وشقيقنا محمد مكت، صديقنا العزيز معالي حمادي ميمو، اخونا الراحل حمزة اعمر رحمة الله عليه ، اخوتنا ابناء المرحوم دودو كان ، احباءنا ابناء المرحوم كاندكا سامبا و والدتنا جميعا زوجته المحترمة مريم سال. ابن خالتي وصديقي الحميم يسلم ولد الشيخ ولد الولي رحمه الله. وذكر لي بعض الأصدقاء فخامة رئيسنا الحالي محمد عبد العزيز و ان كنت شخصيا لا اتذكره ، لا في حي مدينه “R” ولا في المجموعات المتنافسة في حي ’’مدينه 3’’، وهذا طبعا لا يقلل من الاحترام الذي اكنه له. و آخرون كثيرون. ذكريات مشتتة في ذهني ولكنها لحظات لا يمكنني نسيانها أبدا. عالم لا يزال حيّا في ذاكرتي و حقبة من تاريخ هذا الْبَلَد ما انفكت تُلقي بظلالها علي الأحداث حتى يومنا هذا. كان أحمد لوليد يتمتع منذ نعومة أظافره بطباع فريدة تختلف عن طباعنا جميعا و إني لا أزال أذكر ما قاله لنا ذات يوم (الشهيد) النقيب سويدات ولد وداد و هو يمر بالقرب منا في سيارة ” جيب ” العسكرية التي ألفناه فيها في شوارع انواكشوط الناشئة : “أيها الحمقاء() ! لماذا لا تكونوا مثل زميلكم هذا الذي يحمل دائما كتابا في يده”. لم يكن أحمد يكذب أبدا ولم يكن يشارك في أعمالنا الطائشة و نزواتنا الصبيانية و كل الحماقات التي كان يمارسها معظم أطفال المدينة آنذاك. لقد نشأ و ترعرع في كنف والد شهم علَّمَه شيَّم الاصالة و المروءة و أمٍّ طيبة كريمة دأبت بهدوء لا يخلو من صرامة على إشاعة قيم الفضيلة في نفوسنا الطرية ، كانت لا تلومنا إلا نادرا غير أن نظرة عتاب منها كانت أقسى و أشد إيلاما لضمائرنا الصغيرة من وقع السياط. و كم كنت سعيدا فيما بعد و أنا ألتقيه في مختلف المناصب التي تبوأها و أَلْمَسُ دائما مدى حرصه على تلك القيم و وفائه لتلك المبادئ التي زرعها في نفوسنا أعز الناس علينا . في كل مراحل حياته المهنية ، من مدير الميزانية إلى وزير المالية إلى وزير أول إلى سفير في كل من باريس و مدريد و القاهرة ثم ممثل لبلده في الامم المتحدة ، ظل أحمد متمسكا بقيمه و لم تغيره الظروف. مسيرة ناصعة مثل درب التبانة في ليلة مضيئة بالنجوم. لقد أدى من المهام الوطنية ما تقاصر عنه الكثيرون .إنه واحد من أبناء هذا البلد الذين لم يخذلوه و لم يخيبوا أمله. واليوم أقرأ بكل بساطة في خبر ثانوي على أحد المواقع أنه أُحيل الى التقاعد. كان بإمكان إحدى وسائل إعلامنا الكثيرة و خلال برامجها المتنوعة أن تنوه بخصال أحد مواطنيها الذين تفانوا () في خدمة الوطن و خروجوا من الوظيفة بسجل نقي و خال من الشوائب، عسى شبابنا المتأهب للمسؤولية يجد في ذلك قدوة و مثالا يحتذى. ما أضيع الدول التي يتساوى في نظرها المحسن و المفسد و الصالح و الطالح. . ()ذالك أن العمل على تكريم الاوفياء و المخلصين لأمتهم و شعبهم هو أحسن درس يمكن ان نعطيه لاجيالنا القادمة.

 

محمد حنفي- الكويت بعد الترجمة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى