ماذا يفعل حنامينة بعد التسعين؟

ماذا يفعل حنا مينة في هذه الأيام؟الزمان انفو ـ في 17/8/2008 كتب الروائي السوري حنا مينة وصية جميلة نشرتها جريدة “الثورة” في دمشق في اليوم التالي، وجاء فيها إنه عمّر طويلاً حتى صار يخشى ألا يموت بعدما شبع من الدنيا. وأضاف: “لقد كنتُ سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرتْ عيناي النور وأنا منذور للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله ومكافأة السماء وإني لمن الشاكرين”.

الواضح أن لغة تلك الوصية موشحة ببعض العبارات الدينية، وهي غريبة على روائي شيوعي عريق ظل يجاهر بشيوعيته حتى الأمس القريب. ومع أنه لم يعترض في وصيته على الصلاة لراحة نفسه، واستعمل جُملاً إيمانية عدة مثل “يقيني أن لكل أجل كتاباً” و”نعمة من الله ومكافأة السماء” و”إني لمن الشاكرين”، فقد ختم وصيته: “أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها (أي لزوجته)، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجتْ منه، وخرجتُ أنا منه، ثم عدنا إليه”.

خاتمة هذه الوصية، خصوصاً كلمة “العدم”، تراوغ متنها بجلاء تام مثلما يراوغ هو نفسه وقائع أيامه وصروف دهره؛ فهو “يزعم” أنه كان سعيداً جداً في حياته. غير أن مَن قرأ رواياته، ولا سيما “المستنقع” و”بقايا صور” يعثر على قدر هائل من القهر والبؤس والحسرات والويلات، ومن المحال أن يتمكن صاحبها من الانتصار عليها طول حياته. لكن، ربما تغلب حنا مينة حقاً على شقائه حين بات علماً من أعلام الأدب العربي المعاصر، لكن هذه النتيجة لا تصمد كثيراً أمام تفصيلات الحياة التي غمرت حنا مينة، ومنها موت ابنته بالسرطان في سنة 1982، والتي كتب عنها رواية “حمامة زرقاء في السُحب”، فجعلها في السحب لا في السماء على جاري القول. ومهما يكن أمر إيمانه اللطيف أو عدم إيمانه الكثيف، فالسؤال هو: ماذا يفعل حنا مينة اليوم بعدما بلغ الثالثة والتسعين، وكان قد شبع من الدنيا منذ نحو عشر سنوات على ما جاء في وصيته.

 *

يلوح لي أن حنا مينة يتقلب في عزلة الألم، أو في ألم العزلة، بعدما رحل جميع أصدقائه، و”تشقلب” العالم كله من حوله، وتناثر كغبار الطلع شعار “وطن حر وشعب سعيد” الذي داعب خياله يوماً، وأفنى في سبيله سنوات من عمره. والمعروف أن حنا مينة ولد في سنة 1924 في اللاذقية، ثم هاجرت عائلته إلى مدينة السويدية في لواء الإسكندرون، ثم عادت العائلة إلى اللاذقية مجدداً ليعمل أبوه حمالاً في الميناء. أما هو فقد أنهى دروسه الابتدائية في سنة 1936 ووقف عندها، ولم يكن أحد “يفك الحرف” في “المستنقع” الذي عاش فيه وكتب عنه روايته المشهورة الموسومة بالعنوان نفسه.  

” وقد منح البحرُ حنا مينة روايات أخرى مثل “الشراع والعاصفة” و”المرفأ البعيد” و”حكاية بحار” و”البحر والسفينة وهي” و”الدقل” وغيرها. واللافت أن أدب البحر ازدهر على الساحل السوري فيما لم تعرف مدن الساحل اللبناني أدب البحر وأغاني البحر وتقاليد البحر على الرغم من خرافة الأصل الفينيقي لسكان ذلك الساحل “

أولى رواياته هي “المصابيح الزرقاء” ثم انفلقت الكتابة من بين أصابعه، ولم يتوقف منذ ذلك الوقت، فأصدر “المستنقع” و”بقايا صور” و”القطاف” و”الدقل” و”الشمس في يوم غائم” والثلج يأتي من النافذة” و”الأبنوسة البيضاء” وغيرها من الروايات التي نالت حضوراً كبيراً في سبعينيات القرن المنصرم. ولعله أكثر الروائيين العرب الذين كتبوا عن البحر وارتياد المجاهل البعيدة والتعمد بمياه الأعماق والأجساد التي حرقتها الأملاح والشمس. ورواية “الياطر” من أبرع وأجمل روايات البحر في الأدب العربي، خلافاً لبعض رواياته التي كانت تكرر أجواء رواياته السابقة.

أبطاله مغامرون وصيادون وقبضايات الموانئ وبائعات اللذة، وجميعهم يعيشون عند تخوم المرافئ وفي المقاهي البائسة التي تنثر الأجساد والكؤوس فيها روائح العرق والعرق. وهؤلاء، في معظمهم، أبعدتهم المدن عن نطاقها، ورمت بهم أمام أقدارهم، وجعلتهم منذورين لافتضاض الأمواج واكتشاف معنى الموت ومغامرة الحياة في الوقت نفسه. إنهم أقرب إلى روح يوليسيس ومصائره العبثية. ولا أعلم، على وجه اليقين، لماذا تشابهت بعض عناوين روايات حنا مينة مع روايات أخرى منها، على سبيل المثال، رواية “حكاية بحار” التي ترنو بالقرابة إلى رواية “حكاية بحار غريق” لغابريل غارسيا ماركيز التي صدرت عن دار ابن رشد في بيروت سنة 1980. بعدما ترجمها صديقنا محمد علي اليوسفي؟ أيكون هذا التشابه من صوغ المترجم؟ وكذلك روايته “المصابيح الزرقاء” التي لها صلة لفظية واضحة برواية الكاتب الفلسطيني نبيل خوري الموسومة بعنوان “المصباح الأزرق” التي صدرت، أول مرة، في سنة 1957؟

 *

ثلاث وتسعون سنة من الشقاء والفرح ومغالبة الأيام العابثة والشهرة وترويض الكلمات؛ إنها عبء السنين الذي ينيخ بكلكله على عاتق إنسان مثل حنا مينة التهم الحياة في رواياته، ولا ندري حقاً هل التهمته الأيام وطحنته في مرجلها مثلما تلتهمنا جميعاً، ومع ذلك نخال أننا نقارعها بسيوف من خشب ورماح من قصب؟

 

” وقد منح البحرُ حنا مينة روايات أخرى مثل “الشراع والعاصفة” و”المرفأ البعيد” و”حكاية بحار” و”البحر والسفينة وهي” و”الدقل” وغيرها. واللافت أن أدب البحر ازدهر على الساحل السوري فيما لم تعرف مدن الساحل اللبناني أدب البحر وأغاني البحر وتقاليد البحر على الرغم من خرافة الأصل الفينيقي لسكان ذلك الساحل “

 

صقر أبو صقر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى