مقطع من رواية “أدباي” للمبدع الشيخ نوح

الزمان انفو –

لم يكن هذه المرة يعبأ بالدرك ولا بالشرطة ولا بمراقبة الأشجار الهاربة إلى الوراء بل كان غارقا في حساب الاحتمالات الممكنة كي يلتقي بتلك الفتاة؛ وأصر أن يجتهد في دراسته حتى يحقق حلمهما بالعيش تحت سقف واحد ذات يوم سيكون فيه العالم سعيدا لا شك، مثلما راح يتأمل وضعية أدَبايْ التي لا تتغير؛ واكتشف بعد عودته من العاصمة أن المدرسة كانت تفتقر إلى العديد من الضروريات فازداد تقديره لذلك المعلم المرابط هناك؛ والذي يدفع الفاتورة من دمه وشبابه إيمانا بوطن لا يؤمن به حتى من يتحكمون في مصيره أو هكذا على الأقل تقول تصرفاتهم، وحلمَ بذلك اليوم الذي سيتوفر فيه أدَبايْ على مدرسة من الأسمنت المسلح بأبواب من خشب ثمين بدل أبواب حديد خشنة؛ وبنوافذ أنيقة وسبّورات غير مليئة بالحفر ومصدر للطاقة؛ وبمراحيض نظيفة وعلَم جميل فصيح الألوان يرفرف بحرية صباحا على إيقاعات نشيد وطني يؤديه أطفال نظيفون غير جوعى!.
في غمرة تفكيره أيضا تذكر كيف يتداوى أهل أدباي بالأعشاب وورق السدر؛ ونبتة “فَلّجيط” التي تسبب الإسهال على الفور؛ وما زال لم ينس تلك الحمى الشديدة وذلك الضعف في كل جسده؛ وكيف نصح المعالج التقليدي أمه أن تغلي له تلك النبتة ثم يشرب الماء المغلي؛ كي يتسبب لنفسه في الإسهال كونه ينظف المعدة من كل الأجسام الغريبة؛ وكلما كان الإسهال شديدا وحادا كلما ارتفعت احتمالات شفاء المريض حسب المعالج التقليدي. كانت القاعدة الطبية تقول: تبرزْ أكثر وبشكل جارف تكن حالتك الصحية أفضل.
حلمَ موسى وهو يتذكر ذلك الإسهال الجماعي الإرادي لأهل القرية بيوم يحصل فيه أدَباي على مستشفى أو مركز صحي؛ وبأن يختفي مشهد الضحايا الذين يموتون سنويا بسبب الملاريا والحصباء؛ وأن ترحل إلى الأبد مواسم موت النساء الحوامل والأطفال الرضع. بيوم يستطيع فيه ساكنة أَدَبايْ أن يعيشوا في بيوت ذات سقوف من القرميد الأحمر مثل تلك التي رآها في الجزء الشمالي من نواكشوط يسكنها موريتانيون فاتحو البشرة وليس في بيوت طينية تنهار كل سنة كلما حل موسم الأمطار؛ وأن تتوفر لهم تغذية صحية تليق بالإنسان ويختفي ذلك الغذاء الروتيني المكون أساسا من الأرز الأبيض الخالي من الخضروات والتوابل والذي يسمونه محليا “فِدْقُ” وهي لفظة أصلها الفرنسي “vide de gout” أي خال من النكهة.
هذا الطعام الذي وإن لم يجعل السكان يصابون بمرض البَرِبَري بعدُ كما حدث للجنود أيام الحرب العالمية الثانية بسبب تغذيتهم المستمرة بالأرز الأبيض؛ إلا أنه جعل كل الناس يصابون بالبواسير وجعل بطون الأطفال منتفخة كبالونات.
ماذا سيكون مصير البئر لو أصبحت هناك حنفيات في القرية وكهرباء؟. فكر وهو يتثاءب ويتمدد من طول الجلوس على مقعده في السيارة؛ ثم خلُص إلى أنه قد ذهب بعيدا في أحلامه رغم أنها أحلام بسيطة ومشروعة وممكنة التحقق.
تخيلَ كذلك وضعية سكان الأرياف الذين نزحوا إلى نواكشوط منذ السبعينيات على إثر سنوات الجفاف ومن ضمنهم العم عبد الله؛ ولم يكن وضعهم أحسن من وضع أهل أدَبايْ.
الرجال كلهم وبدون استثناء تحولوا إلى حمالين في الميناء يفرغون السفن في القاطرات ويفرغون القاطرات في المخازن والمخازن في الدكاكين؛ وبالكاد يحصلون على قوت يومهم.
النساء تحولن إلى كائنات فجرية؛ يستيقظن مع أول ديك في نواكشوط متسابقات إلى الشاطئ لاشتراء كميات قليلة من سمك “يايْ بويْ” الرخيص؛ ليبعنها في تلك الأحياء المعدمة والتي يحتلها الذباب والقمامة، أو يعملن بملامحهن الكادحة في بيع كسكس وباسي دون لبن على نواصي تقاطعات الطرق المغبرة؛ هذا إضافة إلى بيع حزم من التبغ والنعناع وكل ما لا يضمن عيشا كريما ولا يغني من جوع وبكميات ضئيلة تضمن استمرار حياتهن الرثة؛ ولا يعدن إلى منازلهن إلا بعد أن تتدثر المدينة بظلامها العنيد والنذل..
تسرب الأطفال من المدارس وأصبحوا يبيعون “زازو” عند مداخل الأسواق حيث بيع الأكياس البلاستيكية مهنة؛ وينكشون القمامات بحثا عن بقية من طعام وهم ينافسون حشود الذباب والديدان بملابسهم المتسخة؛ وبأجسادهم المكسوة بندب الجروح وآثار بثور الأمراض الجلدية والحكة الدائمة، ولأن عمالة الأطفال لم تكن محرمة فقد كانوا وقودا لكل أنواع الاستغلال والانتهاكات؛ فهذا طفل وهو مراهق لم يبلغ بعد سن الثانية عشرة يحمل لأحد المشترين خنشة من الأرز تزن 50 كغ؛ وذاك صديقه بالكاد بلغ الرابعة عشرة من عمره وهو يحمل في يديه جردلين من الزيت في كل واحد منهما 20 لترًا والأمثلة لا تحصى.
إن هؤلاء الهاربين من جفاف الريف وجهنمات آدْوابَه لم يستطيعوا دخول العاصمة فكوّنوا حولها أحياء من الصفيح والزنك معتقدين أنها مجرد وضعية مؤقتة؛ ولكنهم مع مرور الوقت بلغوا مرحلة من اليأس لا يمكنهم معها إلا الأمل على حد تعبير الكاتب نور الدين فارح متحدثا عن أوجاع بلده الصومال.
اجتاحت دواخله صرخة من الوجع تشبه صفعة الزوابع المجنونة للأعرشة والأكواخ الهشة في أدَباي؛ وأحس أن حياة هؤلاء عبارة عن قبضة من الزمن المنسي؛ وحفنة من الوقت الضائع الذي لا يعبأ به عدّاد الزمن السلطوي. إنهم خليط من الهامشي والإنساني والواخز والمتعفن والرث.

من صفحة الكاتب والشاعر الشيخ نوح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى