عباس ابراهام: مساهمة في نقاش الجماعة والإرهاب الفكري واللفظي

الزمان انفو – أودّ هنا المساهمَة في النقاش فيما يخصّ الجماعة والإرهاب الفِكري واللفظي. واعذروني على بعض المسحة الذاتيّة هنا.

لقد عدَدتُ من أصدِقائي أكثر من ثلاثة وعشرين صديقاً خسِرتُ صداقتَهم لمّا تعرّضتُ لنقدِ جماعاتِهم. بعض هؤلاء لم يشأ أنْ يخرُجَ من دائرة معارِفي دون أنْ يترك وراءه دُخان العلندي الخبيث. بعضُهم واصلَ ذلك بأقلامٍ مستعارة وبعربون العداوة المُثابرة. أمّا البعض، بمن فيهم الرجالات السرِّيون للجماعة فقد انسحبَ بهدوء (مشكوراً)، ولكنّه أنهى أوْ علّق الصداقة. لقد شاهدتُ كلّ ذلك وقد اعتقَدتُ أنّه ليس صِحياً. فأنا، وإنْ كُنتُ أقول السلبي في الجماعة، فإنّني أحياناً أقولُ فيها الحسن. (لستُ مُجبَراً على قولِ الحسنِ فيها؛ وإنّما أن مُجبَر على قول رأيي، بما فيه الصمت عنه).

رأيتُ خفر الذمّة والفجور في الخصومة، ليس من الصبيان (فأمرُ هؤلاء هيِّن؛ وإن هِيَ إلاّ أنْ تدور الخيْل مرتيْن حتّى يخرّوا)؛ وإنّما من الأعلام. كان ذلك عندي مُستنكَراً. فأنا، على حداثويتي، أحنُّ إلى خُبزِ أمِّي وإلى البداوة الأصيلة، عندما كان أهالي هذه الربوع يتصارعون كالحمير ويحمِلون في وجوهِ بعضِهم بالوجه الضاري. ولكنّهم كانوا يردمون الفأس ويتعانقون ويتسامَحون، وبالتأكيد يتصادَقون. لقد اعتقدتُ أنّ هؤلاء يُدمِّرون السماحة. أنا لا أفعَل شيئاً بصداقة هؤلاء. والواقِع أنّني مُقصِّر حتّى تجاه أصدِقائي الحقيقيين. ولكنني اعتقدتُ أنّ كلّ هذه العداوة والضراوة لا يُؤدِّي إلى خيْر في المجالسة.

والآن دعكَ- يا حبيبي- من الصداقة فإنّها ترَف. أنا شاهدتُ اعلي ولد محمد فال يذهبُ إلى قبرِه وهو يُلعَن، ليس من أغيلِمة سُفهاء، بل من ناسٍ وازِنين. شاهدتُ أشخاصاً لم يُعادونَه بالنِقاش في الحياة يعادونَه في لحن الجنائز. لقد اعتقدتُ أنّ ذلك انتقالاً بالخِلاف من دُنيوِتِه إلى أخرويتِه. شاهدتُ كلّ ذلك وخِفتُ على الوئام. وقد شاهدتُ لمرابِط ولد سيدِ محمود يُحصَبُ يومَ دفنِه. لم يكن المظهَر جميلاً. فمرّةً أخرى أنا صحراوي وأنا أهابُ الموت وأطوي الصفحة. ولقد قدّمتُ دوماً مراثِيَ لخصومي. نحنُ نسورٌ، لا نتقاتَلُ إلاّ في السماء. البوطي كان مُفكِّراً إسلامياً دعم نظاماً قمعِياً (مثله مثل ابن تيميّة أو حسن الترابي). ولكن جُثتُه صارتَ مرقصاً. والكنتي؟ وولد آبّة؟ والأعيان المجهولون؟ شاهدتُ الهجاء البذيء يُوظّف في الأشخاصِ في مُجرّدِ المخالفة. كلّ شيء عُبّأ، مرّةً أخرى من النخبة، لا الدهماء. الخطئية. الإثم الشخصي. الفشل. الضعف. ولكن أيضاً الظنّْ والشُبهة والتقويل، وما هو أهَمّْ، الاختلاف، وحتّى اللغة. شاهدتُ قيادِياًً ومُربِيّاً يُذيع ضد خصمِه، في مواقِع الإرجاف والخَفر، أنّه عِربيد. شاهدتُ ذلك ولم يُعجبني.

وماذا عن مجالِس العِلم؟ ما يُفعَل فيها لا يحترِمُها. لقد شاركت في عدّة ندوات ومؤتمَرات حول العالم. ولكنّني لم أتلقَ الشتم إلاّ على تلك التي ذكرتُ فيها الجماعة، وبيْن أهلي ومن يليني من القوم. لم تجد الجماعة حرجاً في هشتقتي بالشتم، ليس فقط على استخلاصاتي وإنّما على لُغتي! ثمّ شاهدتُ التضامُنيين، الذين يتضامنون حتّى مع الغربان في شِعاب الجبال، يخافون وينكصون. ومع أنني لم، ولن، أطلُب منهم تضامُناً، فأنا لستُ ضحيّة (بل أنا صاحِب شكيمة وذو شوكة) ولكن خوفَ التضامنيين وتسترّهم بأطراف الليل لتسجيل موقفٍ مستور جعلني أشاهد قوّة الجمهور في خلق المصادرة الذاتيّة. هذا الخوف والإرتعاش الذي سرَى في أبدان التضامنيين رأيتُه. وقد اعتقدتُ أنّه لم يكن جميلاً.

أعتقِدُ أنّ هذا السِّجِل الذي فُتِحَ عن العنف اللفظي والحزبي مُفيد. وقد أحببتُ المشاركة فيه بخاطِرة. أنا لا أعتقِد أنّ الجماعة مسؤولة، أو على الأقلّ وحدَها، عن العنف اللفظي، لعدّة أسباب: أولّها أنّ بعضَ أعلامِ الجماعة نفسها قد صار ضحيّة صابِراً على العنف اللفظي (وقد نصحتُ بعض هؤلاء بتطهير صفحتِه من البَخَرْ)؛ وثانياً أنّ العنف اللفظي يبدو لي مسؤوليّة تحوّلات ثقافية وإعلاميّة وسياسيّة وتربويّة وفِكريّة أكبر من الجماعة. ولكنّني أعتقِد أنّ هذه المساءلة حائنة. كصاحِب حق أنا أشكر من فتح هذه المساءلة. وآمل أنْ تكون أيضاً فرصة في تطهير الألسنة وحِفظ الأمكنة، رغم الاختلاف.

أشكرُكم،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى