عن “السياسي” في موريتانيا

الزمان انفو _ كتب عباس ابراهام:
ما هي طبيعة “السياسي” (the political) في موريتانيا؟ هل يوجد تقليدٌ سياسي موريتاني؟ ثمّة قولٌ أنّ السياسة الموريتانية هي استحالة التقليد السياسي لأنّ طبائع السلطة القديمة استعصَت على التوحيد في الكيان الجديد فلُملِمت من النموذَج الأميري والبولاري والسونينكي إلى نموذَج “بوليتيك” (سياسة الوجهاء والأعيان notables الفرنسية ذات الجينيالوجيا العثمانية)، وستتطوّر هذه السياسة إلى سياستيْن: واحِدة للسلطة وأخرى للمعارضة، واحِدة لحزب الشعب وواحِدة للكدحة.

إلاّ أنّ هذا يحمِل رائحة فوكويامية تنقل وثوقية ليبرالية في قدرة الدولة الحديثة على سكّ التقليد السياسي وإبعاد التواريخ السياسيّة. وواقِع الأمر أنّ التقليد السياسي العتيق وجد دوماً كيف يُعشعِشُ في الذهن العمومي. دع عنك تقاليد المدح السياسي وتقديم التمر واللبن في مراسيم الاستقبال والاحتفاء الضيوف في سهرات الشِّعر والفن والتعيينات الدورية للتوازنات العشائرية وأن التاريخ الرئاسي للبلد يمشي بمتتالية: زاوي يتبعُه حسّاني. هذه بالتأكيد من استدامات “السياسي” الموريتاني. ولكن تجلياتُه ليست فقط في اللاوعي السياسي: مثلاً كانت انقلابات الثمانينيات عوداً أبدياً لسياسات “الغدرة”.

التقليد السياسي الموريتاني هو تقليد إبلي. يُسمَحُ بـ”آمخوّل” واحِد في القطيع، أما الطامِعون للسلطة فيُزوزلون إلى أنْ يأتِي انقلابٌ سلطوي جديد. إنّه أيضاً تقليدٌ مغفري: يهرُب المهزوم أو المتنازِل في “زوكَة” ويلتزِم بالصمت وواجِب التحفظ. اتفق العسكر على القتل الأوديبي لولد داداه، وسمِح له فقط بالموت في البلاد. عندما عادَ ولد ولاتة سبّبت تلك العودة بلبلة كبيرة في النظام السلطوي لأنّه أرادها أنْ تكون كعودة اعلي شنظورة أو عودة ولد الدّيْد. يحلّ “السياسي” هذه الطموحات بالسجن. ونفس الشيء فعله ولد الطايِع في 2003، المرّة الوحيدة التي غضِب فيهها ولد الطايِع علناً، لانّ هيدالة عادَ لاستلام السلطة. عودة أعلي ولد محمّد فال ربّما كانت مأساويّة؛ ولكنّها أيضاً مثالٌ عن تمغّص “السياسي” من المزاحمة التاريخية في الحُكم.

اليوم يُحاوِل عزيز العودة. وبطبيعة الحال فإنّ هذا يطرَح مشكلة للتقليد السياسي. وسرعان ما قامت السلطة بمضايقته بأنْ منعته ورد الماء. وقد بدأ هذا بثورة كبيرة عليه من أنصارِه. هذه الثورة ليست بالضرورة انتهازية، بل هي من بديهيات التقليد السياسي. والدليل أنّها حدثَت أيضاً في سياقٍ غير انتهازي: فعندما أراد جميل منصور الامتعاض من سياسات خلفه وبدأ يُعبِّر عن انتقادٍ ضمني للرئيس الجديد لتواصُل فإنّ شباب الحزب الإسلاموي عبّروا عن امتعاضِهم من الشوشرة التي يقوم بها منصور. منصور فهم الرسالة واندمَج في شكلِه الجديد. إنّه التقليد. يُسمَحُ بتيْسٍ واحِدٍ في القطيع. يمكن أنْ يتعايش أسدان ولكن بشرط توحيد الهيبة: ليثٌ هادِرٌ في أعلى التلّ، وليثٌ صموت وعجوز في السفح: يتلقى الفتات ويكتُب مذكِّراته.

اليوم هنالك ثغرة في الشكل الجديد للسياسي: فالجنرال عزيز يمتلِك حساباً يُطلّ منه على السياسة. هل سيهدم التقليد السياسي؟ أولاً هل يمتلك الكاريزما والذكاء السياسي؟ وثالثاً أليس مُثقلاً بالغنائم بما يُهدّد قدرته على تحدي التقليد السياسي؟ وما هو أهمّ: أليس جثّة سياسيّة أصلاً، كما أثبَتَ ذلك مرّة أخرى مؤتمره الكيشوتي الأخير؟ وهل يمكِن للأموات أنْ يُغيِّروا التقليد السياسي إلاّ كما أمكَن لوالِد هاملت الميِّت أنْ يُغيّر التقليد من خلال دورِه كشبَح؟ إنّ عزيز ينتقِل من جُثة إلى شبح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى