“المحظرة” ينبوع عطاء لا ينضب

بقلم محمدسالم حبيب

الزمان أنفو –

لم يقدر لي للأسف أن كنت أحد مرتادي المحاظر، لكن قرأت عنها وسمعت عنها وعن طلابها ما يثلج الصدر.

وكم تمنيت لو كنت أحد أولئك الطلاب الذين كدحوا في مرابعها ردحا من الزمن، سبيلا للتميز!

إن تلك الخصوصية التي حبا الله به هذا القطر، بوجود تلك الحاضنة المسماة “المحظرة” جعل من طلابها أناسا مميزين وعلى كل الصعد – ولك أن تدرك بعض ذلك حين ساعة حوار مع أحدهم – جعل الكثير من الأقطار تغبطنا عليها.

إن المحظرة الموريتانية مؤسسة أكاديمية بحق  تختلف وتتعدد محتويات ومتونها، ولعل أهم ما يميزها هو ما يتصف به شيوخها ومرتادوها من موسوعية، في مختلف التخصصات، إذ يأخذ شيوخها من كل علم بطرف (La polyvalence).

وهو ما ينعكس إيجابا على تحصيل طلابها.

ينهج أغلب شيوخها – مع كل ذلك – أحدث الطرق التربوية في تعاطيهم مع طلابهم شعروا بذلك أم لم يشعروا، متبنين نهج التنافس الإيجابي سبيلا للتحصيل، و نهج التوجيه طريقا للمحاسبة.

كل ذلك في أسلوب أدبي ماتع يأسر الألباب.

سواء كان ذلك الأسلوب  في صيغة نثر أو شعر.

ومن ذلك التوجيه اللبق، ما يوجهه الشيخ لأحد طلابه حين يأتي فعلا مستهجنا، لا يتعدى في محاسبته قول: وفعل ما لاينبغي، لاينبغي ل…

و إن كان قولا مستقبحا، فيقول الشيخ لتلميذه هذه المرة: وقول ما لاينبغي، لا ينبغي ل..

أما دعوتهم للتنافس في التحصيل ففيه يقول أحدهم:

هو الجهل جهل الفقه ليس بجائز

وجـاهل علم النـحو لـيس بــــفائز

وجــهل قريض الشــعر شر غريزة

إذا عـددت يــوما شــرار الـغــرائز

ولاتتــرك التــوحــيد مـلغى فــإنه

لخيـمة دين الـمرء إحــدى الركائز

ولاتـجـهـلن علـم الـحـســاب فإنه

قبــيــح على الفتيان عـد العجائز.

عالم من الجد والتحصيل والمدارسة،  وأجواء تنافسية، تغطي معظم المتون الفقهية والأدبية وغيرها مما درجت المحظرة  على تقديمه حفظا وشرحا وتعليقا لطلبتها، أجواء من العطاء يلخصها أحد هؤلاء الطلاب الشعراء لحظة حنين إلى تلك البيئة المحظرية، بعد فترة انقطاع، يقول:

 

فـــمــن لي بـــفـــتـــيــان كــــرام أعــــزة

يـــكــونــون أصــحــابي وأصـحبهم دهرا

يخــوضـــون في كـــل العـلوم بفــهمــهم

فـــــهــــذا بـــــذا أدرى وذاك بـــــذا أدرى

فــمـــن كـاتــب “قـفا” طـــويلا وكــــاتب

“عــــلـوم أصـــول الديـن” يجــعـلها ذخرا

ومـــن كــاتـــب “قــــف بالديــار” وكـاتب

“ألا عـــم صباحا” أو “قــفا نبك من ذكرى”

ومـــن قــــارئ “بــان الخــليـط” ومــنشد

“خــليـــلي مــــرا” أو “ســمـا لك” إذ يـقرا

إلى أن يقول:

ومـــن قـــارئ “عــلم البـــديع” ومــظــهر

لقـــارئه “التــدبيــج” و”اللف” و”النشرا”

ومـــن كــاتب “عكس النقيض” مـوضحا

ل”كيـــفية الصـــغرى” و”كــمـية الكبرى”

ومـــن كاتــب “عـــلم الــحساب” بخطه

إذا خـــطــه قــالــوا له زد هنا “صــفرا”

 

أخيرا ألا ترون أن  إحياء مثل تلك المعلمة وتثمين جهود أصحابها وعطائها الذي لاينضب، بجائزة لحفظ تلك المتون وفهمها أمر وارد؟

بل أظنه أقل الواجب، وهو الصواب بعينه ولفتة كريمة وفي محلها، وخطوة تذكر فتشكر للسلطات السياسية القائمة، تنضاف إلى أخرى تبشر بميلاد فجر موريتانيا الجديدة المتصالحة مع ذاتها وموروثها وخصوصيتها الثقافية، تعيدها سيرتها الأولى أيام كنا ملء السمع و البصر وريادتنا على كل لسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى