و من الرعب ما……. (1،2)

صلاح الدين الجيلي:

الزمان أنفو _

ليلة البارحة خُضت مغامرة قد يعتبرها البعض عادية جدا، لكني و بمشيئة الله لن أكررها، كما أني لن أنساها ما حييت.

الشركة التي أعمل بها، أرسلت لنا مهندسا أجنبيا ستتم مبادلته بآخر على ظهر سفينة في عرض البحر، قبالة ميناء نواذيبو، و أرسلت معه إداريا يعمل في مقر الشركة الرئيس، و هو صديق وزميل من الفُلان، طيب جدا و على خلق حسن، ويتكلم الحسانية أفضل مني، كان علينا تأجير زورق صغير ليأخذنا لوجهتنا، و فعلا اتجهنا لميناء الصيد ( آرتيزانا ) و اتفقنا مع أحد قادة المراكب على الأجرة و انطلقنا، حال انطلاق القارب، تفاجأت بأني لم أشعر بأي خوف اعتراني، و في نفس الوقت تذكرتُ قسما قديما كنتُ قد قطعتهُ على نفسي بأن لا أركب البحر مرة أخرى، كان ذلك على إثر حادث قديم نجاني الرحيم الكريم منه، و على كل حال، لستُ من الذين يخشون البحر، فحبي له كبير جدا، كما أني قد أُعدُ من السباحين المهرة، لكنها أول مرة أركب فيها زورقا يُحاكي نُحول الهلال الوليد.

سار المركب بنا بانسيابية ممتعة ناعمة، و طفقتُ مع زميلي و الذي كان فرحا بتجربته الأولى نتبادل الحديث عن العمل و الشركة و مسار الرحلة و هل سيكون بديل مرافقنا جاهزا حتى لا يؤخرنا فنضطر للرجوع ليلا.

شيئا فشيئا أصبح الزورق يتأرجح يمينا و شمالا، و كأن قائده فقد السيطرة عليه، لكنه طمأننا بأن ذلك طبيعي جدا و أن الإنسيابية في سيره تغيرت لأننا كنا نسير في كنفِ الميناء و قد خرجنا منه، ما هي إلا دقائق حتى أصبح الحال حالا آخر، سكت الكلام عن الكلام و تمنعت الحروف من التشكل، و بلغت القلوب الحناجر ، المهندس الفلبيني كان كلما قفز القارب تشبث بالمسند العمودي مُبتسما ابتسامة ثقة ليست في محلها، كأنه يريد أن يقول لنا، بأنه إبن البحر و بأن زورقا صغيرا لن يُبدد كبريائه، أما صديقي و زميلي فقد بدأ في قراءة القرآن تارة بقراءة ورش و تارة بقراءة حفص و لا أدري هل كان يعي التبدل الحاصل في موجته، إذ وصل به الأمر لقراءة آية بقراءة ورش و التي بعدها بقراءة حفص، ثم يستمر في قراءة واحدة، و يبدلها مباشرة كلما طار الزورق، تمعنتُ في السر وراء ذلك، و قلتُ في نفسي لعله حجاب عظيم، سيقينا شر ما نحن فيه، فسكتُ عنه، وحده قائد المركب كان على هدوء غريب و رباطة جأش عجيبة، حتى قفزات المركب لا تزحزحه من مكانه، بطول الرحلة تستقر سيجارة من ماركة كونجرس في فمه يمتصها و تمتص روحه، تبدو العلاقة بينهما قديمة جدا، لم أرهُ يلمسها بيده بعد إشعالها مطلقا، يدٌ على المقود و الأخرى على مسند أفقي على شكل قوس قريب من رأسه، فتبقى للسيجارة حريتها تتنقل من جانب فمه للآخر، فكأنه عود آراك في فم معمر له سن واحدة.

انتقل صديقي من القرآن إلى تمتمات غير مفهومة، خاصة أن قوة ارتطام الزورق بالموج تضاعفت حدتها، كنتُ أجري حديثا متقطعا مع القائد، تدخل صديقي مقتربا برأسه من أذني صارخا:
– أنتَ اثركْ مانَكْ خايف , أجبته , أصل خايف يغير اشْلاهي انعدل، نظر في وجهي باستغراب شديد و أشاح عني ببصره واضعا وجهه بين يديه، خُيل إلي أنه وضع قلبه بين يديه، لا وجهه.
حاولتُ مواساته، داريتُ خوفي اقتربتُ منه و كدتُ أسقط لحظة انحراف من الزورق مفاجئة، تعثرت بحقائب المهندس التي أوقفتني عن السقوط التام، عدتُ لمكاني ببطء و عدت لمواساته و التخفيف عنه، لا أعرف ما قلته له تحديدا و لستُ متأكدا أنه كان يُصغي إلي، هي ذاتُ النظرة رمقني بها مرة أخرى، ثم طأطأ رأسه , في تلك اللحظة، سمعت قائد الزورق يقول:
– ذا لبحر الليلة اشفاكعو، ذا غريب..!!
ما إن قالها حتى التفتُ لصديقي، حمدتُ الله على أنه لم يسمعه، لو سمعه لربما بكى وجلا و رعبا و هو موقف لا أحب و لا أتمنى رؤيته من رجل، اقتربتُ من قائد الزورق، حتى ظللتني غمامة من عود آراكه، طلبتُ منه أن لا يكرر ما قال، و أشرتُ بأن صديقي يكفيه ما فيه، تفهمني مُرسلا زفرة قوية من سيجارته، اختلط دخانها بعادم المحرك فامتزجا برائحة لا أعتقدُ بأن هناك مصنعا له القدرة على مزجها، كيف يُمكن مزجُ الخوف و الترقب في معمل ما، ليعطي منتجا له هذه الرائحة التي لا فكاك منها، رائحة الأقدار و قوتها، رائحة تلاشي قوتك الآدمية، كأن خيوطها تغزل في داخلك زوايا من عدم تُفتش فيها عن ذاتك فلا تجدها، و تأخذك للتفكير في ماهية قوتك كإنسان، فتجد أنك لا شيئ، تعود بك لأصلك، حين لم تكن شيئا مذكورا.

.(2)

..في تلك التأملات القسرية، غير المريحة بالمرة، فاجأني خاطر عابث، بدون مقدمات، قفز لذهني إسم السفينة المنشودة (هالكي) و مباشرة و على خُطى المعري في تشاؤمه، برز لي الهلاك مُنتزعا من إسمها، أيُّ عبث هذا و أيُّ رحلة، قبل ساعة واحدة كنت في مكتبي هناك على الأرض، مالي و للبحر، أي غفلة عن قَسمي ساقتني هنا؟

كان ذلك التناوش يعصفُ بي عصفا، لم أعد معه أُبالي بالزورق مال أو انخفض، قفز أو ترنح، كنتُ أتسلقُ حبلا من ذكريات نجاتي من مآزق سابقة، و كنتُ و هي تُستعرضُ أمامي أتطلع بلهفة لنهايتها، هل سأرى في نهاية حبلها عقدة تلتفُ نحو يد مُنقذٍ أو رُكنٍ ذا قوة آوي إليه.
تلاعبت الأمواج بنا داخل الزورق، أصبحنا نتكَورُ داخله و الماء المُتطاير علينا حوَّلنا لمُسوخٍ مُضيئة الوجوه بفعل الملح عليها، تأكدتُ بأن إحساسي بجمال الرحلة حين ركوبنا كان مجرد استدراج لفخ لا حول و لا قوة لنا فيه، في البحر، أنت قطعة من روحٍ في مهب ريح يتحكم بها الأعلى، و ليس الوضع بالعكسي في غير البحر “حاشا ربي” له ملك كل شيء، لكن للبحر سطوة و أسواطٌ مُخيفة، واهبُ الخيراتِ هذا في لحظة واحدة يستطيع جعلك أثرا بعد عين، لا مقبرةً و لا شاهدَ ضريح، كنتَ و اختفيتَ فقط لا غير، كل بطولاتك، اعتدادُك بنفسك، زهوك الكاذبُ ببشريتكَ الكاملة، كل آدميتك بكل مفاخرها كم ستأخذ من مساحة هذا الوحش الذي لا ينام، لا شيء، ستنزلُ عميقاً في أي فاهٍ شاءَ، و كله أفواهْ، سيفتحُ الأقربَ لكَ، ثم يرتدُ عليكَ، من فوقكَ، ماسِحا أثر اللقمة المجهرية “أنتَ”.
لم يُخرجني من تساؤلاتي، أو بالأصح مخاوفي المُرعبة، غير صوت قائد الزورق:

  • ذيك أَمَّالها هي هالكي؟

تراءت لنا أضوائها، كنا كمن يرى أمه بعد طول فراق، اشرأبت الأعناق و أصبح طيران الزورق و ارتطامه القوي أمرا نستطيع تحمله برغم انحشارنا في زواياه متفرقين كطيور بللها مطر عاصف، أو جنودا مُحاصرين في خندق امتلأ من جثث رفاقهم، بعد معركة ساحقة، فأصبح الموت رفيقا آخر يتجولُ بينهم، بل و يحدثونه أيضا.

وصلنا لتحتِ السفينة الضخمة، زورقنا الصغير حاذاها تماما و كأنه يُدرك حاجتنا للدفء، ألقوا لنا سلالمَ من حبال و بدأت عملية أخرى، تُذكرك برجال الكوماندوز، كان علينا دفعُ المهندس للسلالم و القارب يُواصل ترنحه القوي، و من ثم ربط حقائبه بحبل آخر، تمت العملية في نصف ساعة شاقة، تحولنا خلالها لرجال من نوع آخر، أحيانا تكتشف في نفسك ما لم تعهده منها يوما، حتى لو كان قد مر بك من الشدائد الكثير، صرختُ على المهندس و هو على سطح السفينة بأن يُعجل بإرسال زميله، انتظرنا لعشر دقائق تقريبا و لم يحضر أحد، لم نكن نرى من موقعنا أحدا على السطح، صرخنا عليهم مرات و مرات و أخيرا جاء أحدهم يحمل جهاز إرسال لاسلكي، طلب مني الصعود للقبطان إذ أن المهندس البديل لن يذهب قبل تسليم العمل للوافد الجديد، صرختُ فيه بأن يُبلغ القبطان بالراديو في يده بأن هذا لم يكن اتفاقنا حين اتصلتُ عليه من المكتب ظهرا، بدا من الرجل أنه لا يفهم الإنجليزية، أعدتُ كلامي عليه، فرد عليَّ بالفلبينية، هنا صرخ فيه صديقي محتدا:

  • يللي يكلع بوك و أمك أمشي عيط للكابيتين!!

قلتُ له ضاحكا:
– الرجل لم يفهم الإنجليزية فكيف بالحسانية؟؟
رد و هو يرتجف بردا:
– يبويَ حتى نحنَ ما نعرفو الفلبينية، لا اشقيتني وانَ اخباري.
عاد لمكانه في آخر زاوية من الزورق مُترنحا كسكير أُدخل لتوه مخفرا للشرطة، بعد حفلة ماجنة.

بعد مشاورات بيننا و عدم فهم عامل السطح لنا، قررتُ أن أصعد، تخففتُ من كنزتي الصوفية المُبتلة و اكتفيتُ بقميصي القصير، بعد محاولات يقترب فيها الزورق من السلالم و يبتعد وُفقتُ بالإمساكِ بها، و صعدتُ رويدا رويدا، ناولني العامل يده و أخذني إليه، و شرعتُ في مساعدة صديقي في الصعود، انطلقنا لبرج القيادة، و صببتُ جامَ غضبي على القبطان الذي بدا متأسفا، مُعتذرا بأنه لم يُقدر بأننا سنأتي ليلا و بأن الوافد الجديد يحب أن يأخذ فكرة عن عمل زميله خاصة أنه عائد من عطلة طويلة، قال بأنه تكفيه ثلاث ساعات، أجبتُ بالرفض القاطع، و بأننا لن نُمهله أكثر من عشرين دقيقة، و إلا عليه أن يدفع ثمن الرحلة لقائد الزورق، كانت تلك مجرد مناورة مني لعلمي بأن الآسيويين في الغالب لن يدفعوا أوقية واحدة إلا بخروج أرواحهم، سألني كم يجب أن ندفع، أجبتُهُ دون تفكير، مائتي دولار، فرد..نعم نعم تكفيني عشرون دقيقة و سيذهب معكم.
جلسنا في مطعمهم للراحة و انتظار الرجل، بعد حوالي نصف ساعة، دخل علينا يحمل حقائبه، نزلنا للقارب بنفس طريقة الصعود، يخامرني إحساس تعيس بأني أخرج من فم بئر ملعونة لأُشاكس ثقب إبرة في يد عجوز ترتعش، أُحاول الدخول من خلالها فلا يستطيعُ العجوز وقف ارتعاشه، لأبقى ذاك الخيط الرفيع أتأرجح بينهما.

نزلنا قاع صفيحة قائدنا الهمام المسماة “زورقا” و انطلقنا، في اللحظة التي خرجنا فيها من تحت القارب أدركنا بأن رحلة مجيئنا كانت وادعة تماما و لطيفة إذا قورنت بما حدث و ما نترقب حدوثه، فقد زادت قوة الموج أضعاف أضعافها، و الأضواء الخافتة التي كنا نراها من بعيد تأنس خوفنا، غارت وراء الموج، الظلام حالك جدا، حتى أنك بالكاد ترى خيال رفاقك، كان أول من سرى فيه الخوف المهندس الفلبيني، حين ارتفع الزورق عاليا مُرتدا بقوة كبيرة، بكى مباشرة بصوت خافت، للوهلة الأولى ظننته يُغني لكني حين أنصتُ عرفتُ بأن دواعي الطرب ليست هنا بتاتا، كان زميلي مُلتصقا بي من هدوئه الشديد ظننته نام، هززته صرخ في:

  • أهنَ عني!!

ضحكتُ كما لم أضحك من قبل.
– سمِّي، هيه سمِّي و حجَّب، خلي عنك ذا الواحل فيه!!

كلماتٌ صرخ بها قائدنا نحوي، أخيرا أدرك بأنه في معركة لا يُواجهها كل يوم، بالرغم من خبرته المرسومة بتوقيع سنينها قطونا على وجهه الملبد بغيوم دهنية فلا تعرف لعمره عددا، تحرك زميلي من غيبوبته الوجِلة المُتكررة:

  • صلاح أنت جنَّيت، أكْرا القرآن، أكْرا حجَّب، أكرا إذا زلزلت، أبدى لا تكراها، أبدى , عندي عني آنَ هو أللي جنَّيت، إذا زلزلت أخبارها!!

غاب في تمتمات جديدة، و بينما كنتُ لتوي أُحاول إيقاف ضحكي الذي غلبني، و على قدر ما نحنُ فيه و كأننا لم نكتفِ بكل ذلك، بلا سابقِ إنذار أو صوتٍ مُحذر، توقف هديرُ المحرك، توقف تماما..و ما زال أمامنا أكثر من ثلاثة عشر ميلا لنقطعها..

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى