قصة قصيدة الجواهري: في حضرة أبي العلاء

الزمان أنفو – في تراثنا الأدبي العربي طائر يحلق بجناحين في ثنائية من نوع مختلف, ذلك الطائر يتجسد في (حكاية قصيدة), تلازما معاً, فارتبطت القصيدة بالحكاية والحكاية بالقصيدة. وأدبنا العربي يزخر بالعديد من تلك المواقف والقصص التي خلدتها القصائد, حتى استحال بعضها إلى ثنائية متلازمة تناولها الرواة والنقاد, وحيكت حولها خيوط, وأضيفت إليها أخرى, حتى صارت أسطورة متماسكة تروى جيلاً بعد جيل.
أبو العلاء المعري شاعر عباسي, عرف أنه (شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء), وكانت هذه العبارة شاهد تمثاله الذي كان قائماً في مسقط رأسه بمدينة معرة النعمان في محافظة إدلب السورية. وحتى إن أسهمت الأحداث السياسية الأخيرة في قطع رأس التمثال؛ فإن أبا العلاء المعري يظل الشاعر والمفكر الذي ألهم الأدباء والمفكرين والشعراء, مروراً بطه حسين الذي رافقه في سجنه ونال به شهادة الدكتوراه, أو بنت الشاطئ التي رافقته في حياته.. وليس انتهاء بشاعر العراق محمد مهدي الجواهري الذي أبدع رائعته (قف بالمعرة) في 91 بيتاً ألقاها – بحضور طه حسين – في مهرجان ذكرى أبي العلاء المعري الذي أقامه المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1944 فى الذكرى الألفية لوفاة أبي العلاء.
الحكاية
تحدث الجواهري في كتابه (ذكرياتي) عن ولادة قصيدته (قف بالمعرة) قائلاً إنه كان مسافراً إلى الشام مع ناظم الزهاوي وحسن الطالباني، فأنزل في نقطة التفتيش، وبطريق الصدفة علم أنه ضمن الوفد العراقي المقرر حضور ألفية أبي العلاء، أخبر بذلك قبل أسبوع، وقبل المهرجان لم تكتمل لديه القصيدة، فقد كتب قصيدة تضمنت سبعين بيتاً، لكنه مزقها ورماها، لأنه لم يجد فيها أبا العلاء المعري، فاصطحبه صديقه عمر أبو ريشة معه إلى زحلة لبنان، وهناك حضر المطلع فقط, إلا أن القصيدة اكتملت ليلة المهرجان.
القصيدة
قف بالمعرة وامسح خدها التربا     واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا
واستوح من طبب الدنيا بحكمته     ومن على جرحها من روحه سكبا
وسائل الحفرة المرموق جانبها      هل تبتغي مطمعاً أو ترتجي طلبا؟
يا برج مفخرة الأجداث لا تهني      أن لم تكوني لأبراج السما قطبا
فكل نجم تمنى في قرارته      لو أنه بشعاع منك قد جذبا
والملهم الحائر الجبار هل وصلت      كف الردى بحياة بعده سببا؟
وهل تَبدَّلْتَ روحاً غير لاغبة      أم ما تزال كأمس تشتكي اللغبا
وهل تخبرت أن لم يأل منطلِق      من حر رأيك يطوي بعدك الحقبا
أم أنت لا حِقَبل تدري  ولا مقةً     ولا اجتواءً  ولا برءاً ولا وصبا
وهل تصحح في عقباك مقترح      ما تفكرت أو حدثت أو كتبا؟
نور لنا إننا في أي مدلج       مما تشككت إن صدقاً وإن كذبا
أبا العلاء وحتى اليوم ما برحت      صناجه الشعر تهدي المترف الطربا
يستنزل الفكر من عليا منازله     رأس ليمسح من ذي نعمة ذنبا
وزمرة الأدب الكابي بزمرته      تفرقت في ضلالات الهوى عصبا
تصيد الجاه والألقاب ناسيةً      أن في فكرة قدسية لقبا
وأن للعبقري الفذ واحدةً      إما الخلود وإما المال والنشبا
من قبل ألف لو انّا نبتغي عظةً     وعظتنا أن نصون العلم والأدبا
على الحصير.. وكوز الماء يرفده      وذهنه.. ورفوف تحمل الكتبا
أقام بالضجة الدنيا وأقعدها     شيخ أطل عليها مشفقاً حدبا
بكى لأوجاع ماضيها وحاضرها      وشام مستقبلاً منها ومرتقبا
وللكآبة ألوان وأفجعها      أن تبصر الفيلسوف الحر مكتئبا
تناول الرث من طبع ومصطلح      بالنقد لا يتأبى أيةً شجبا
وألهم الناس كي يرضوا مغبتهم      أن يوسعوا العقل ميداناً ومضطربا
وأن يمدوا به في كل مُطَّرحٍ     وإن سقوا من جناه الويل والحربا
لثورة الفكر تأريخ يحدثنا      بأن ألف مسيح دونها صلبا
إن الذي ألهب الأفلاك مِقولُه     والدهر.. لا رغباً يرجو ولا رهبا
لم ينس أن تشمل الأنعام رحمته     ولا الطيور.. ولا أفراخها الزغبا
حَنا على كل مغضوب فضمده      وشج من كان أياً كان مغتصبا
سل المقادير هل لازلتِ سادرةً      أم أنت خجلى لما أرهقته نصبا؟
وهل تعمدتِ أن أعطيت سائبة      هذا الذي من عظيم مثله سلبا
هذا الضياء الذي يهدي لمكمنه     لصاً ويرشد أفعى تنفث العطبا
فانْ نخرت بما عوضت من هبة      فقد جنيت بما حملته العصبا
تلمس الحسن لم يمدد بمبصرة      ولا امترى درةً منها ولا حلبا
ولا تناول من ألوانها صوراً      يصد مبتعد منهن مقتربا
لكن بأوسع من آفاقها أمداً      رحباً وأرهف منها جانباً وشبا
بعاطف يتبنى كل معتلج      خفاقه ويزكيه إذا انتسبا
وحاضن فزع الأطياف أنزلها      شعافه وحباها معقلاً أشبا
رأس من العصب السامي على قفص      من العظام إلى مهزولة عصبا
أهوى على كوة في وجهه قدر      فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا
وقال للعاطفات العاصفات به      الآن فالتمسي من حكمه هربا
الآن يشرب ما عتقت لا طفحاً      يخشى على خاطر منه ولا حببا
الآن قولي إذا استوحشتِ خافقه     هذا البصير يرينا آيةً عجبا
هذا البصير يرينا بين مندرس      رث المعالم، هذا المرتع الخصبا
زنجية الليل تروي كيف قلدها     في عرسها غرر الأشعار.. لا الشهبا
لعل بين  العمى في ليل غربته     وبين فحمتها من ألفة نسبا
وساهر البرق والسمار يوقظهم      بالجزع يخفق من ذكراه مضطربا
والفجر لو لم يلذ بالصبح يشربه      من المطايا ظماءً شرعاً شربا
والصبح ما زال مصفراً لمقرنه      في الحسن بالليل يزجي نحوه العتبا
يا عارياً من نتاج الحب تكرمةً      وناسجاً عفةً أبراده القشبا
نعوا عليك – وأنت النور – فلسفةً     سوداء لا لذةً تبغي ولا طربا
وحملوك – وأنت النار لاهبةً –     وزر الذي لا يحس الحب ملتهبا
لا موجة الصدر بالنهدين تدفعه      ولا يشق طريقاً في الهوى سربا
ولا تدغدغ منه لذة حلماً      بل لا يطيق حديث اللذة العذبا
حاشاك، إنك أذكى في الهوى نفساً      سمحاً، وأسلس منهم جانباً رطبا
لا أكذبنك إن الحب متهم      بالجور يأخذ منا فوق ما وهبا
كم شيع الأدب المفجوع مختضراً      لدى العيون وعند الصدر محتسبا
صرعى نشاوى بأن الخود لعبتهم     حتى إذا استيقظوا كانوا هم اللعبا
أرتهُمُ خير ما في السحر من بدء      وأضمرت شر ما قد أضمرت عقبا
عانى لظى الحب ( بشار) وعصبته      فهل سوى أنهم كانوا له حطبا
وهل سوى أنهم راحوا وقد نذروا     للحب ما لم يجب منهم وما وجبا
هل كنت تخلد إذ ذابوا وإذ غبروا      لو لم تَرُض من جماح النفس ما صعبا
تأبى انحلالاً رسالات مقدسة      جاءت تقوم هذا العالم الخربا
يا حاقر النبع مزهواً بقوته      وناصراً في مجالي ضعفه الغربا
وشاجب الموت من هذا بأسهمه      ومستمناً لهذا ظله الرحبا
ومحرج الموسر الطاغي بنعمته      أن يشرك المعسر الخاوي بما نهبا
والتاج إذ تتحدى رأس حامله      بأي حق وإجماع به اعتصبا
وهؤلاء الدعاة العاكفون على     أوهامهم، صنماً يُهدون القُرَبا
الحابطون حياة الناس قد مسخوا     ما سن شرعٌ وما بالفطرة اكتسبا
والفاتلون عثانيناً مهرأةً      ساءت لمحتطب مرعى ومحتطبا
والملصقون بعرش الله ما نسجت      أطماعهم: بدع الأهواء والريبا
والحاكمون بما توحي مطامعهم     مؤولين عليها الجد واللعبا
على الجلود من التدليس مدرعة      وفي العيون بريق يخطف الذهبا
ما كان أي ضلال جالباً أبداً      هذا الشقاء الذي باسم الهدى جلبا
أوسعتهم قارصات النقد لاذعةً      وقلت فيهم مقالاً صادقاً عجبا
صاح الغراب وصاح الشيخ فالتبست      مسالك الأمر: أي منهما نعبا
أجللت فيك من الميزات خالدةً      حرية الفكر والحرمان والغضبا
مجموعةً قد وجدناهن مفردةً     لدى سواك فما أغنيننا أربا
فرب ثاقب رأي حط فكرته      غُنمٌ فسَفَّ.. وغطى نورها فخبا
وأثقلت متع الدنيا قوادمه      فما ارتقى صعداً حتى ادَّنى صَبيا
بدا له الحق عرياناً فلم يره      ولاح مقتل ذي بغي فما ضربا
وإن صدقت فما في الناس مرتكباً     مثل الأديب أعان الجور فارتكبا
هذا اليراع شواظ الحق أرهفه     سيفاً وخانع رأي رده خشبا
ورب راض من الحرمان قسمته      فبرر الصبر والحرمان والسغبا
أرضى وإن لم يشأ أطماح طاغية      وحال دون سواد الشعب أن يثبا
وعوض الناس عن ذلس ومتربة      من القناعة كنزاً مائجاً ذهبا
جيش من المُثُل الدنيا يمد به      ذوو المواهب جيش القوة اللجبا
آمنت بالله والنور الذي رسمت      به الشرائع غراً منهجاً لحبا
وصنت كل دعاة الحق عن زيغ     والمصلحين الهداة العجم والعربا
وقد حمدت شفيعاً لي على رشدي      أماً وجدت على الإسلام لي وأبا
لكن بي جنفاً عن وعي فلسفة      تقضي بأن البرايا صنفت رتبا
وأن من حكمة أن يجتني الرطبا     فردٌ بجَهد ألوفٍ تعلكُ الكَرَبا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى