موريتانيا… ظروف نشأة الجماعة الإسلامية
تزايد الدعوات لوضع نشيد جديد ‘مرتبط بالحياة الدنيوية’ وسط تحذيرات من التطاول على ثالوث: العَلم والوحدة والنشيد.
حرص الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، ورفاقه من المؤسسين للدولة الناشئة في تلك الظروف البالغة الصعوبة، على إضافة وصف “الإسلامية” إلى اسم الدولة الناشئة، رغم الضغوط الفرنسية؛ وعندما اختطوا العاصمة السياسية التي نشأت تمهيدا لإعلان الاستقلال، كان الجامع العتيق يتوسط منشآتها الحديثة..
وأسندت الإمامة والفتوى والمرجعية الدينية الرسمية إلى أحد أبرز علماء البلد هو العلامة بداه ولد البصير رحمه الله؛ وكان في ذلك كله رسالة إلى المجتمع، عساه أن يتلقى قيام الدولة الجديدة بالقبول.
لكن ضعف منسوب الوعي الوطني والحضاري بين مرجعيات المجتمع التقليدي، وجهدهم الذي لا يكل في مقاومة ثقافة المستعمر، كانا سببين كافيين لتحييدهم بالكامل عن المائدة السياسية، عند قيام الدولة الجديدة؛ كما كان نفوذ المستعمر في الترتيبات التي أسست الدولة ورافقتها في خطواتها الأولى، سببا كافيا لأن يقابلها المجتمع البدوي التقليدي بنظرة مشككة ومتوجسة، باعتبارها امتدادا لدولة المستعمر، وتمكينا لثقافته، وتهديدا للمنظومة الدينية والأخلاقية المتوارثة عن الأجداد.
استطاعت الدولة الناشئة تقديم البرهان على أن ما نقمه المراجع الدينية منها ما كان إلا ضرورة أملتها الظروف غير المواتية، التي ولدت فيها الدولة، وهكذا تم إيفاد البعثات من شباب العلماء إلى عدة أقطار عربية، ليعودوا قضاة ومعلمين وإداريين؛ وبمرور الوقت أرست خطب العلامة بداه، والتي كانت تنقلها الإذاعة مباشرة، وكذلك مجالسه العلمية ومؤلفاته التنويرية، أرست أول مدرسة موريتانية تنويرية مدنية، في مجتمع بدأ ينسلخ من بداوته ويألف الاستقرار ومتطلبات السلطة الجامعة.
كانت الأفكار والمبادئ والرؤى والغايات، التي تصل موريتانيا عبر الكتب، جديدة مؤصلة وشاملة، تقدم العقيدة الإسلامية بسيطة ندية طرية، تفعم الوجدان بالطمأنينة والرضا، وتقدم العبادة تجسيدا وتجديدا للإيمان والإخلاص والالتزام، وتقدم الشريعة نظاما شاملا للسعادة والعدل والإحسان، وتقدم الإسلام رسالة ربانية خالدة دائمة متجددة تنتظم كل شئون الإنسان، وتقدم الإنسان كائنا متفردا مكرما مستخلفا فيما سخر له، في كل زمان وفي كل مكان.
كان كلها من تأليف القادة والمنظرين الكبار لحركة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا والعراق وباكستان والهند.
إثرها ولدت الجماعة الإسلامية، وبدأ الترتيب على الفور لعقد المؤتمر التأسيسي لتنظيمها، ولم يتأخر انعقاده إلا بقدر ما يستكمل الأعضاء الجدد مدارسة الكتب الأساسية، المقررة كحد أدنى لاستيعاب المنهج، ثم انعقد ليوم واحد، وانتخب أول أمير لها، وكان ذلك في بدايات ربيع العام 1978 .
كان على الحركة الوليدة أن تخرج فكرها ودعوتها للعلن، وأن تجد لها موطئ قدم في زحمة الدعوات والأفكار، وأن تقيم لصوتها الجديد منبرا في حلقات المناظرة الفكرية والسياسية الساخنة، دون أن تكشف عن نفسها في ساحة مخترقة من أطراف عدة، فقد اقتسمت تلك الساحة منذ أكثر من عقد من الزمن، تيارات عديدة، منها قومية عربية ناصرية وبعثية، تنقسم على نفسها كلما طلع نجم زعيم، أو أفل نجم زعيم، ومنها قومية زنجية انفصالية، جعلت من عدم بترسيم لهجاتها البدائية ذريعة للتشبث بلغة، ومنها تيارات ذات مرجعيات غربية، يمينية ويسارية، وفي صفوف كل منها اختراقات ترقبها من الداخل، لحساب الأجهزة والدوائر الأمنية.
وبانتظام الأعضاء في حضور الجماعات في المساجد، وحضورهم المكثف والنشط في حلقات الدروس والمواعظ والفتاوى، استطاعوا كسب ود العلماء والأئمة البارزين في الساحة، فأصبحوا ظهيرا لهم في وجه الاتهامات التي بدأت تلاحقهم، تارة من التيارات العلمانية التي ذهلت من سرعة انتشار الأفكار الجديدة المناهضة لمناهجها، وتارة من الزعامات الدينية التقليدية التي استشعرت الخطر على مكانتها كمراجع.
كان من الطبيعي أن تجد الحركة في طلبة المحاظر(المدارس الأهلية الإسلامية) وخريجيها من حفظة القرآن الكريم والمشتغلين بمدارسة المتون التراثية، وكذلك من منتسبي بعض الطرق الصوفية، مرتعا خصبا لدعوتها، فكانت المحضن الأول لخلايا الجماعة، قبل أن تنتشر الفكرة والدعوة والخلايا التنظيمية رويدا رويدا،إلى المدارس والمساجد والمصالح والأسواق، وتتغلغل في ثنايا المجتمع وتقاطيعه وفئاته المختلفة، خلال فترة وجيزة.
كان ميلاد الجماعة الإسلامية في أواخر أيام حكم الرئيس الأسبق المختار ولد داداه، وبعد أن اندلعت الحرب في الصحراء الغربية، وقد أدخلت الحرب البلاد إلى نفق مظلم، بسبب انعكاساتها السياسية والاقتصادية والأمنية، خاصة بعد تعرض العاصمة لهجمات البوليساريو المتكررة؛ وقد تزامن ميلاد الجماعة الإسلامية الموريتانية وانتشار دعوتها وتأثيرها بين الناس، مع بلوغ أزمة الحرب ذروتها.
وكان من مفاجأة سارة لها أن جملة التدابير التي اتخذها المختار ولد داداه، لامتصاص الوضع الداخلي الهش، كان من بينها قرار بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع شؤون الحياة، لكن انقلابا عسكريا قاده ضباط الجيش الموريتاني المنهك من خسائره في الحرب، بتحريض من بعض الحركات القومية، عاجل تنفيذ هذا القرار التاريخي، فأجهضه في 10 يوليو 1978، وانهار معه في لحظة واحدة تراث ثمان عشرة سنة من بناء الدولة.
قدم الانقلابيون ذرائع ثلاثا لقلب النظام، هي: الحرب، وتردي الوضع الاقتصادي، وغياب الديمقراطية، لكن ضبابية الرؤية والهدف، والفقر في التجربة والخبرة، ألجأ الضباط الذين انقضوا على السلطة، إلى استبطان شخصيات متقاعدة قديمة العهد بالسلطة، وبعض المغامرين من الحركات القومية واليسارية، وذلك بعد تحييد الكفاءات الوطنية بذريعة موالاة النظام السابق، فكانت النتيجة تخبطا في جميع الاتجاهات، وعجزا توقفت معه مجاديف سفينة البلاد بشكل نهائي.
في هذه الأجواء قررت الجماعة أن تُسمع صوتها من خلال أول عمل علني، تمثل في مسيرة حاشدة استطاعت أن تعد لها جيداً، وأن تحشد لها الآلاف، وترفع فيها العديد من اللافتات الإسلامية، وسارت تلك المسيرة إلى القصر وخاطبت اللجنة العسكرية التي استقبلتها عند البوابة الرئيسية، وقد حمل الخطاب رسائل عدة، إلى اللجنة العسكرية، وإلى الجمهور العريض المشارك وغير المشارك في المسيرة، وقد وصلت تلك الرسائل وظهرت نتائج وصولها بسرعة قياسية.
قبل مرور سنتين كان رأس هرم السلطة قد تغير مرتين، واستلم القيادة ولد هيدالة، الذي أبرم معاهدة سلام مع البوليساريو برعاية الجزائر، خرجت بموجبها موريتانيا من النزاع وانسحبت من الإقليم، وهدأ التدافع على السلطة إلى حين، وساعد ذلك ضمن عوامل أخرى على الدفع بالجماعة إلى الأمام، باعتمادها خطابا إسلاميا وسطيا، يبتعد عن نكء الجراح والثارات التاريخية، ويدعوا إلى العودة إلى الجذور والتمسك بقيم الآباء وثوابتهم، ويشجع التعليم الأصلي، ويتجنب الاصطدام بالمنظومة العقدية والفقهية والسلوكية السائدة.
صنع النهج الوسطي تياراً واسعا بين القيادات الدينية والاجتماعية، يتبنى رزمة المطالب التي طرحتها الجماعة في الساحة، وتتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتعريب القضاء، والترخيص للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح مناهج التربية الإسلامية، وإنشاء شعبة بكالوريا للتعليم الأصلي، وإدماج خريجي المحاظر في السلك الوظيفي، ودعم المساجد والمحاظر؛ ولوجاهة تلك المطالب في أوساط الأغلبية من المجتمع التقليدي المحافظ، فقد تم تبنيها على المنابر وأصبحت موضوعا لا يغيب عن الدروس المسجدية والندوات العامة التي أضحت ظاهرة منتشرة.
ميدل ايست أونلاين