هل ننتمي حقا لهذا العصر؟ / الولي ولد سيدي هيبه

الساعة السابعة من صبيحة يوم الاثنين 23 دسمبر2013، حطت طائرة الأرباص المملوكة للخطوط التونسية في مطار “قرطاج” الدولي بتونس الذي كان يتباهى يومها بُرجه العالي و يحتفي بمرور أربعين عاما على إنشائه من خلال لافتة عريضة تعلن من أعلى قمته عن ذاك

 التخليد بأحرف بارزة مكتوبة بخط بديع و بلوني العلم التونسي الأبيض و الأحمر. كان الجو باردا و علي أرضية مدرج المطار تلمع على استحياء و في ضوء شمس محجبة أضعف ستار من الغيوم لمعان أشعتها و خفض تلألؤها على صفحة الماء القابع في سكون داخل الحفر الصغيرة في الإسفلت الأسود و تحدث أخبارها بأن سقوط رذاذ خفيف الليلة البارحة أوجدها.

حركة المطار و نشاطه كانا نسبيين، طائرتان في حالة الإقلاع وطائرتان تهبطان. لفقد كان المشهد بهذا الحجم أقل من المعتاد لهذا المطار أو هو على الأرجح دون المتوقع له بالنسبة لعاصمة ذات شهرة عالمية سياحية و ثقافية بامتياز و معروفة بكونها كذلك موطن الكثيرين لا يحصون عددا من الكوادر و الأطر العاملين و الحاضرين بقوة في المنظمات الإقليمية و العربية و الدولية و بكونها بحق أرضية صلبة و مسرحا مفتوحا و ذائع الصيت تقام فيه على مدار السنة مهرجانات و لقاءات و ندوات عالمية ذات طابع تبادلي ثقافي و فني و اقتصادي و علمي. و مع ذلك بدا لي المطار، و الطائرة في وضعية الهبوط، تحفة معمارية فيما وجدته بعد الوصول إلى داخله يعج بالعركة و تتقاسم طابقه العلوي على ما رأيت عديد صالات لاستقبال المسافرين مرتبة و مجهزة بمكبرات صوت لا تكاد تتوقف عن بث الرسائل و شاشات تلفزيونية تعلن باسمرار و على مدار الساعة مواعيد الرحلات القادمة و المنطلقة. و أنا أنظر من النوافذ الزجاجية داخل صالات الانتظار الواقعة في المنطقة الدولية تراءت لي من بعيد في وضعية أفقية مغايرة مدينة تونس كلوحة رسام مبدع بعماراتها الشاهقة و شوارعها العريضة المشذبة الجنبات و بعض أحيائها المتراصة البنايات في دقة معمارية بادية و أخرى بدورها المنتشرة فوق نتوءاتها الجبلية الممتدة في كل الجهات تزينها في ساحاتها العمومية الفاصلة بينها بعض الأشجار الكثيفة و المساحات المعشبة.

لكن على الرغم من الوجه الحضاري الذي بدت عليه الأمور، في سير الحياة على وتيرة تحاول أن تتناسب ووجهها الحديث، فقد ظلت بعض ظلال التخلف ماثلة لا تكاد تخفيها، على حسنها، بؤر الضوء التي تحاول طرد الظلام و فتح المجال لإشراقه نور الحداثة… ظلال تتجلى بديهة في السلوك المتسم عند جل العاملين و القائمين على المطار- بكل لون الخدمات من استقبال و إرشاد و إعلام، إلى يد عاملة بالخدمات في البنية التحتية و الخدماتية – بارتفاع النبرة الكلامية و الشدة و الحدة في الطبع و كذلك في ضعف الصرامة لاحترام الوقت و قلة صيانة الممتلكات العمومية بحيث تبدو آثار الإهمال ماثلة من خلال غياب بعض التنظيم المحكم و في الانفلات من قبضة زمن الإتقان و الوعي المدني الكامل.

و كالإغفاءة في لحظة عابرة سرقت من الزمن خيل إلي أن عجلة التاريخ التونسي أمسكت بيدي وعادت بي إلى الوراء و أنني أرنو إلي مدينة “قرطاج”، التي كانت ذات يوم مستعمرة رومانية قبل أن يحررها بطلها الرمز “حنبعل”، و كما تصفها كتب التاريخ مترامية الأحياء في تضاريس جبالها وأحضان البحر الأبيض المتوسط تداعبها أمواجه السرمدية الممزوج زبدها بغبار ألواح دسر الغزاة عبر العصور و على إيقاع سرمدية حركة التاريخ عبر الحقب.

فجأة غابت عن ناظري هذه المشاهد التي دغدغتني و أنعشت عقلي الفاتر ثم تكشف لي وجه عاصمة بلدي الحبيب التي غادرت مطارها منذ ساعات قليلة عند منتصف الليل. و بدون استئذان مني انهمرت دموع أحرقت خدي بعدما أدمت مقلتي و أذابت قلبي من الحسرة و الألم.. ترى… وجدتني أسائل نفسي:

• من أين جئت إلى هنا؟

• أمن عاصمة حقا غادرت أم من عصر موغل في الحشة و التأخر؟

لكن ذاكرتي التي لا تأبه بالأسئلة تدوس على عقلي فتريني في وضح نهار تونس، على بعد أكثر من ثلاثة آلاف من الكيلومترات، كل تفاصيل مطار عاصمتي.. فوضى المشهد العارمة التي تراءت لي كالكابوس المزعج تحشرها في الزاوية الضيقة للنسيان كل “لاشيئية” المطار. من المدخل إلى سلم الطائرة الجاثمة على المدرج مساحة لا تكاد تتجاوز بضع مترات مربعة، هي مسرح كل عمليات:

• الذهاب و الإياب،

• و التفتيش و الوزن و الشحن،

• و الانتظار،

• و تجمع الداخل و الخارج،

• و الجمارك و الشرطة،

• و ممثلي شركات الطيران،

• و المسافرين و المودعون، و المستقبلون،

• و الحمالين و الباعة،

• و المتوسلين الذين ينتزعون الصدقات بقوة الفوضى.

لا سر يخفى على أحد هنا و لا فوضى تفوت خيوطها على منتبه أو ينجو من متاعبها و سوء منقلبها من هو في عين إعصارها… حقيقة أقل ما يمكن القول عنها، إنها بقدر ما هي ماثلة للأعن بكل تجلياتها و مقبولة عند الجميع بكل أوجهها و أشكالها في تجن على الضمير، بقدرما هي منسجمة تماما مع العقلية المستشرية و السلوك السائد اللذان يمدانها بأسباب الانتشار و التغلغل في كل مكان و بالتجلي و الانحسار شكلا و مضمونا في كل التعاملات و يكيفان القوانين مع متطلبات سيادتها.

و إذْ كانت المرحلة الموالية هي التوجه من تونس إلى اسطنبول بتركيا و على نفس الخطوط التونسية فقد سجلت الرحلة تأخرا زاد زمنه على الساعتين ظل فيهما المسافرون ضيوفا و من أهل البلد سجناء قاعة انتظار في البهو الدولي و هي التي كانت رغم جمال هندستها قليلة التجهيز بمستلزمات الراحة و الاسترخاء، ضعيفة ترتيب ما زودت به، الأمر الذي سرب إلي قلوب المسافرين بعضا من الضجر و الملل.

و تستمر الرحلة و تهبط الطائرة بعد ما يزيد على الساعتين و النصف من الطيران في مطار “اسطنبول” لتتكشف أمام ناظري حقيقة أخرى قلبت عندي موازين التقدير و التقييم و غيرت مدارك الاستقراء و التأويل. طائرات بكل الأحجام و الأشكال يكاد يغطي الرابض منها كل مساحة المطار و يملأ أزيز المحلق منها سماءه. تهبط بأعداد على المدرجات الممتدة في كل الاتجاهات على مرمى البصر في آن واحد و مثلها يحلق مغادرا إلى كل جهات العالم. تعود بي ذاكرتي المعذبة إلى مطار “قرطاج” الدولي فأراه ضئيلا، ثم تقسو علي فتريني عند انتهاء نفق مظلم سحيق مطار عاصمة بلدي، فلا أميز شيئا و ينفطر من الحسرة قلبي و تعاودني في وجداني نوبة ألم الغياب لتخدش في الصميم كبريائي و تذيب عزتي و تسرب إلى عقلي شكوكا متجددة في صحة وجوده على الخارطة.

في المطار و قبل الدخول إلي مدينة اسطنبول بشطريها الآسيوي و الأوربي الذي يفصلهما و يربطهما الجسر المهيب المعلق التاريخي و الاستراتيجي فوق بحر مرمره، وجدت تركيا الدولة و الشعب حاضرة بقوة مرتين:

• الأولى في ثوبها العثماني العتيد من خلال المعمار و الرموز، ثوب من المجد لم تخدشه التحولات رغم عمقها و حدة بعض أوجهاها،

• و الثانية في ثوب الحداثة التي دخلت عصرها بثقة بادية و بتصميم شعب ناطق بأفعال التحول. مدنية طافحة يترجمها سلوك راق في التعامل و انصراف عملي إلى البناء و السمو في صمت المدنية المستحكمة و احتساب الوقت لكل عمل مفيد. لا تكاد تراها الشرطة في شوارعها و الزحام لا تلحظه بل و لا تحسه إلا عند ساعات الذروة و لانسيابية عركة المرور فإنه لا يدوم، و أما الخطاب المدني المتبع فتترجمه لياقة الناس حتى أنه لا يحتاج إلى الترجمة مكلقا. لم نحتج أنا و صحبتي وسيطا لأي أمر طيلة مقامنا، لم نضايق و لم يضع لنا وقت حتى وجدنا أنفسنا في شوارع اسطنبول و كأننا من نسيجها منذ كنا.

محطات ثلاثة لرحلة واحدة لا سبيل بأي منطق كان إلى المقارنة بينها لأن كل مطار عكس وجه البلد على حقيقته و كان فوق ذلك تعبيرا صادقا عن مستوى المدنية لدى أهله بكل أبعاده و أيضا مدى التحام مواطنيه بالبعد الوطني و الغيرة على وجه البلد و عزته.

فبماذا يمكن وصف و تأويل حالة مطارنا و كيف تمكن قراءة المسلكيات السائدة بداخله؟ و هل حالته التي عليها إلا المرآة العاكسة للضياع الذي يطوق أهل البلد و هم لا يشعرون و في انفصامهم عن الواقع من حولهم متمادون؟

إذا لم يكن ممكنا تأويل ذلك بمستوى التخلف و ضعف الخلفية التاريخية و استحالة الالتحام بالعصر فماذا يجب إذا أن يرتكز عليه وجوب التغيير؟

و إن سلمنا بمنطق المقارنة المجردة من التعصب الأعمى و الجمود الفكري أو لسنا نبدو بحق محشورين بركن قصي في مجهول من الكرة الأرضية لا سبيل فيه للمدنية و روافدها البناءة إلى عقولنا و تصرفاتنا.

اسطنبول 26 ديسمبر 2013

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى