بين ” جاما” والأقلام المسروقة
الزمان أنفو (نواكشوط) : كنّا في الطريق عائدين من السنغال عبر معبر «جاما»، داخل سيارة المرسيدس كاوكاو، عندما بدأ الكاتب أحمد أمين يسرد — بإسهاب وعمق — حديثه عن فوضى «الأقلام المسروقة» في زمن الذكاء الصناعي، وعن هذا الطوفان من النصوص المنسوخة التي تُنتَج بلا روح وتُنسب لغير أهلها. كان كلامه يتدفّق على إيقاع الطريق، فيما تمرّ أمامنا خنازير برية (عرات) مثنى وثلاث، تختفي بسرعة بين مزارع الأرز والنباتات الكثيفة، كأنها تهرب من صخب العالم.
كانت عشرات الحمير (احمير تدرگين) تعترض الطريق فتجبرنا على تخفيف السرعة، فالطريق نفسه وعرٌ لا يسمح لسيارة صغيرة بالاندفاع. والطريق الممتدّ حتى مشارف مدينة كرمسين يكاد يكون خالياً من المتاجر والمطاعم، فلا يجد المسافر ما يعوّل عليه إلا الوصول إلى «تگند» قبل أن تنفد وجبة السمك بالأرز المحبّبة لدى كل عابر هناك.
وبينما كان الكاتب يسترسل في حديثه عن أخطار الذكاء الصناعي على الكتابة الأصيلة، كان يقطع سرده فجأة ليشير إلى بقرات تحاول عبور أضاة واسعة نشأت من فيضان النهر في الخريف الماضي، تتعاسر وتغوص أقدامها في الطين، ثم يضحك وهو يلتفت إلى حمار غامر بالنزول إلى الماء ليأكل نباتات غارقة، وقد غاص حتى كاد يغرق: «هذا سيبقى هنا للأبد»، يقولها ساخراً، قبل أن يعود إلى حديثه الأول كأن شيئاً لم يكن.
يستشهد الكاتب بالفيلسوف الفرنسي مانويل سيرفيرا، الذي يرى أن الذكاء الصناعي ليس التهديد الأول للكتابة؛ فكل ثورة تقنية — من الطباعة إلى الإنترنت — أثارت مخاوف مشابهة، لكنها لم تمحُ الإبداع، بل أعادت تشكيله. المشكلة اليوم، كما يرى، ليست في «الغشّ» وحده، بل في أن أنظمة التقييم الأكاديمي والصحافي لم تتكيّف بعد مع واقعٍ تُنتِج فيه الآلة نصاً مقبولاً في دقائق.
ومع ذلك، يذهب أحمد أمين إلى أن الحل ليس في المنع، بل في إعادة ضبط العلاقة مع هذه الأدوات. فالذكاء الصناعي يمكن أن يعين الكاتب في جمع المادة وتنظيم الأفكار وتحليل النصوص، لكنه لا يستطيع أن يكتب بدلاً من تجربة الإنسان، ولا أن يلتقط تلك التفاصيل الصغيرة على الطريق: خنزير يركض، بقرة تتعاسر، حمار يغوص ليأكل ما لا يُؤكل.
الكتابة الأصيلة لا تموت. ما دام الكاتب يرى ويسمع ويشاهد ويعيش، فإن صوته سيبقى مختلفاً، مهما ارتفعت أصوات الآلات من حوله.
عبدالله محمدالفتح

