متى نصدق الحقيقة ؟ / سيدي علي بلعمش

تبدو الساحة السياسية اليوم في غاية وضوح الغموض. و يبدو ترقب المجهول سيد الموقف على كل الأصعدة؛ النظام (و أقولها لولد عبد العزيز و أهل غدة و أهل المامي لا حكومة القمامة النتنة) ينتظر فهم ما يعتمل داخل المعارضة و يفكر بطرق تقليدية يبدو أنها فعالة، في جرها إلى ساحة معركة وهمية لإخفاء حقيقة ولد عبد العزيز بينما يعمل فريقه السري الضيق (آباء القبيلة و ماسحو دموع مصائبها) على ترتيب الوضع بأقل خسائر ممكنة ..

و المعارضة ترفض تصديق إحساسها بعدم “طبيعية” ما يجري و تعمل على خطة أسوأ الاحتمالات لتجنب الأخطاء بما يتيح لعزيز فرصة حقيقية لحبك مشروع إغراء يستهدف أحد أقطابها بمخطط إجرائي ليتم تسليمه الحكم بمسرحية متقنة؛ ترضى فيها فرنسا عن البديل و يرضى عنه الجيش للاعتماد على إمكانيةالتزوير عند الحاجة.  لعل هذا يستدعي الآن قراءة استشرافية، لا يمكن أن تخلو من بعض التنبؤ غير البريء مثل ما يتحدث عنه بالضبط… و لأن ساحتنا ليست ساحة سياسية بطبيعتها؛ فلا ثوابت في خطاب أي جهة و لا رموز في تقاليد أي أخرى و لا موانع في سلوك أي ثالثة، لا بد أن تحمل أي قراءة لها بعض سماتها الخاصة؛ فالثابت الوحيد في سلوك الموريتانيين بسياسييهم و مثقفيهم و علمائهم و رؤسائهم و وزرائهم و غيرهم، هو تطور فكر التآمر في ثقافتهم و سلوكهم و اقتناعهم جميعا أن أي أحد يستطيع تبرير أي موقف محرج بكذبة جميلة و هو أمر يعود إلى غياب المسرح و القصة و الرواية و كل الفنون التي تغوص في أبعاد الإنسان المظلمة … رغم كل ذلك، تبقى هناك أمور لا يمكن أن تعني سوى ما تعنيه، مهما حاولت المهارات السائدة الالتفاف عليها بكل ما أتيت من عبقرية: ـ لقد وقفت فرنسا بكل ثقلها و بأقل قدر من التحفظ ، ضد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله بسبب ترخيصه لحزب “تواصل” و قال سفيرها في نواكشوط حينها لعدة شخصيات سياسية (إبان حراك الكتيبة البرلمانية)، إن الجنرالين (يعني عزيز و ولد الغزواني)، خط أحمر لن تقبل فرنسا المساس بأي منهما؛ مما يعني ـ دون الدخول في تفاصيل كثيرة، أغلبها معروف ـ أن فرنسا هي من كانت وراء كل ذلك الحراك الذي أسقط الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله و بسبب الترخيص للإسلاميين. انتهى. و يشتم من تكرار الرئيس الأسبق أعلي ولد محمد فال الذي كان يرفض بشدة ترخيص حزب للإسلاميين، “لو كان سيدي ولد الشيخ عبد الله أخذ بنصيحتي لما وقع الانقلاب” أنه كان يدرك هذه الحقيقة بالكامل و إذا كان يعني أنه نصحه بأي شيء آخر و لم يأخذ به فكان هو سبب الانقلاب عليه ، فهو مجرد استنتاج خاطئ. انتهى. ـ بعد توليه الرئاسة الدورية لمنسقية المعارضة الديمقراطية في بداية مارس 2013 ، اجتمع يوم 12 مارس، محمد جميل منصور وعدد من قياديي حزبه  (الأمين العام للحزب حمدي ولد إبراهيم والقياديين د.ياي انضو كوليبالي ومحمد الأمين ولد محمد موسى) بسفراء الاتحاد الأوروبي وفرنسا واسبانيا وألمانيا والنمسا . وأكد الحزب  في إيجاز صحفي وزعه آنذاك، أن اللقاء تم بمبادرة من ممثلية الاتحاد الأوروبي في موريتانيا. و من المشروع أن نتساءل هنا؛ إذا كان سفراء الاتحاد الأوروبي يلتقون جميل بمناسبة توليه رئاسة المنسقية ، لماذا لا يذهب إليهم بولد من المنسقية؟ و لماذا لا يطلب منه السفراء ذلك؟ الجواب الواضح هو أن سفراء الاتحاد الأوروبي كانوا يبحثون عن فرصة للالتقاء بوفد من قياديي “تواصل” بطريقة مبررة لمعرفة حقيقتهم. و في حين كان التواصليون يعرضون وجهات نظرهم بلغة من يمتلك مفاتيح النصر، على مائدة غداء فخمة و في وقت كان فيه التعاطف الغربي مع “الربيع العربي” على أوجه، كان وفد السفراء الأوروبيين يمثل محكمة، يهتم خبراؤها بلغة العبارة و إسناد الفكرة و مرجعية الخطاب ، فكان الحديث متشعبا و “صريحا” كما جاء في إيجاز الحزب ” الحوار كان صريحا وجديا وتناول عددا من القضايا والتطورات السياسية”

و قد أعد السفير الفرنسي (السابق) تقريرا هاما عن هذا اللقاء جاء فيه  إن من التقوا بهم (من تواصل) أخطر ممن يقاتلون و قال إن وسائلهم واضحة و سيشكلون خطرا لا محالة على موريتانيا.. وقال السفير في تقريره إن الإسلاميين في تونس رجالات فكر و سياسة بالفعل كما في الجزائر و المغرب (و إن بشكل أقل) أما في موريتانيا فلا يمكن أن نطلق عليهم غير صفة الإرهابيين لتدني فكرهم السياسي و تنامي فكرة المواجهة لديهم. و قال السفير ما معناه، ساعدنا ولد عبد العزيز بكل شيء و أوصلناه إلى كرسي الرئاسة ليمحوهم فحولهم إلى أخطبوط.. و اليوم تمنع فرنسا رعاياها من التوجه إلى موريتانيا و لم تفعلها في نيجيريا التي توجد فيها بوكو حرام و لا في مالي التي سقط نظامها على أيادي الحركات الجهادية و لا في ليبيا التي عمت الفوضى كل شيء فيها. و هذا يعني أن السفير الفرنسي كان يعني ما قاله بالضبط حول خطورة الوضع في موريتانيا. ـ و كان مدير المخابرات الموريتانية قد أعد تقريرا مفصلا عن كل ما يعرفه النظام عن “الإسلاميين” بأدق تفاصيله ، أسماء الأشخاص و نظام الخلايا العنقودية و الأجنحة المعلنة و السرية و الخلايا النائمة و خريطة الانتشار… و وزعه على السفارات الغربية . و لدي دائما طريقة خاصة في تحليل و تفسير قرارات ولد عبد العزيز قلما تخطئ، تعتمد على طرح سؤال واحد “ماذا يستفيد ولد عبد العزيز ماديا من هذا؟” و حين أطرح هذا السؤال هنا ، أجد أن ولد عبد العزيز لا يمكن أن يقدم هذه التقارير للغربيين ليقول لهم أنظروا أدلة فشل نظامي و إنما يفعلها ليقول لهم انظروا حجم الكارثة التي يجب أن نواجهها ، من أجل الحصول على مساعدات أكثر ، ليس إلا… و اليوم يعلن ولد عبد العزيز على الملأ، التحالف مع الإسلاميين، فما معنى ذلك، بل ماذا يمكن أن يعنيه، غير أن ولد عبد العزيز يتحدى فرنسا و هو أمر لا يملك شجاعته و لا القدرات الذهنية على التخطيط له و لا حتى أسباب وجيهة لفعله.. إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعنيه هو أن ولد عبد العزيز لم يعد لديه ما يخسره و أراد أن يضخم التواجد الإسلامي في موريتانيا ليكون على رأس معايير اختيار فرنسا لمن سيأتي بعده، العداء للإسلاميين و القدرة على مواجهتهم و هي مغازلة صريحة لأعلي ولد محمد فال، ضمن آخرين طبعا و إن كانت تجربته في الأمن و في الفترة الانتقالية تعطيه الأسبقية على الجميع؟؟ و هذه مجرد قراءة تحليلية ، تحتاج إلى ما يدعمها. ـ يكثف أعلي ولد محمد فال في الفترة الأخيرة، من خرجاته الإعلامية الغريبة في وجهين على الأقل من أوجهها : الأول، تكراره لنفس الأفكار و بنفس العبارات من دون إضافة أي جديد.. و يحاول أعلي من خلال هذه المقابلات المكثفة ـ في قراءتي ـ أن يوهمنا أنه يعمل بنشاط داخل صفوف المعارضة أحيانا و يحاول في حالات أخرى أن يظهر كقطب مستقل في مواجهة خاصة و أحيانا شخصية مع نظام ولد عبد العزيز، حتى أصبح البعض يفكر أنه يلمح إلى انقلاب عسكري. فما معنى هذا، بل ماذا يمكن أن يعنيه؟ الأمر الوحيد الذي يمكن أن أستنتجه من هذا، هو أن أعلي ولد محمد فال لديه معلومات أكيدة عن الحالة الصحية أو المرضية على الأصح لولد عبد العزيز و يعرف أنه لم يعد لديه من الوقت إلا ما يكفي لترتيب الأوضاع لصالح من سيخلفه. أما الوجهة الثاني، فهو حديث اعلي في مقابلاته عن كل عيوب ولد عبد العزيز ما عدا ما يرتبط منها بالفساد ، و هو لا شك أمر مريب جدا و مثير للغرابة  و الفضول؟  و إذا صح ، أن ولد عبد العزيز زاره في بيته في إحدى الليالي الماضية، فلا شك أن هذا يعني أن الأمور قد اقتربت من مرحلة وضع اللمسات الأخيرة. ـ و هناك حادث لا يمكن لمن يتقصى الحقيقة بالمنطق، أن يتجاوزه، على قلة أهميته الظاهرة عند الكثيرين: و هو  ثناء اعزيزي ولد المامي قبل أسبوع و في يوم 8 أو 9 نوفمبر 2014 بالضبط، و على قناة أفيل ولد اللهاه أي قناة عزيز (الوطنية)، على ولد الطائع و وصفه ب”الرئيس الوطني وصاحب الهمة العالية”، الذي “سعى ليجعل من موريتانيا بلدا فوق القمر” و قوله على قناة عزيز  ” الفترة الانتقالية (أي فترة أعلي ولد محمد فال) “فتحت أملا بالتعددية وبالانفتاح السياسي والاقتصادي، لكن مجيء ولد الشيخ عبد الله وعدم قدرته على مسك الأمور بالطرق المتاحة، فتح الباب أمام التغيير، الذي حصل عام 2008 ” . يبدو واضحا أن الثناء على ولد الطائع هنا ، جاء ليمهد للثناء على أعلي ولد محمد فال من دون ذكره بالاسم أي من خلال الثناء على فترته. و يكون لهذا الكلام أهميته عند ما نعرف أن اعزيزي ولد المامي و سيدي ولد الداهي يُعتبران الوصيان على شؤون القبيلة و الحارسان للخطوط الحمراء لمصالحها. و قد ظل اعزيزي ولد المامي منذ تولي ولد عبد العزيز الحكم، على رأس خلية إعلامية سرية، مهمتها تلميع نظامه و الدفاع عنه؟؟ فلماذا الثناء الآن بالضبط، على ولد الطائع بهذه الجرعة الزائدة؟  و ماذا حدث ليصبح اعزيزي ولد المامي هو من يثني على فترة أعلي ولد محمد فال الانتقالية؟ لا مكان للبراءة هنا و لا مكان بصفة خاصة لبراءة اعزيزي ولد المامي : لقد ارتكب هؤلاء أخطاء كثيرة في حق الجميع  و الآن بدؤوا يدركون أنهم أخطأوا في حق أنفسهم أكثر مما أخطأوا في حق الجميع. و صحيح أن اعلي ولد محمد فال هو الوحيد القادر على رأب بعض ما تركوا من جور و عداوات في الناس، لكن تذكروا أن هذه حساباتكم الداخلية، فماذا تتوقعوا أن تكون حسابات بقية الموريتانيين؟

على الجميع أن يفهم أن ذهاب ولد عبد العزيز بعدما دمر موريتانيا بتعمد و حقد، من دون عقوبة لن يحدث مهما حصل؛ و حتى لو تنازل الجميع عن أخطاء ولد عبد العزيز السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية ، فلا أحد يملك حق التنازل عن ممتلكات البلد التي نهبها دونما وازع من ضمير و لا مسؤولية. و الفريق الذي نهب به ولد عبد العزيز موريتانيا معروف من الجميع:  ولد التاه (وزير المالية)، ولد الرايس (محافظ البنك المركزي) أهل غدة، أهل المامي، أفيل ولد اللهاه، مؤسسة الصحراوي ، ولد محمد لغظف، ولد حدمين، مدير اسنيم، أمربيه ربو..و هناك آخرون من الصف الثاني و الثالث… على هؤلاء جميعا أن يفهموا أنهم على موعد حتمي مع ما يستحقون. و ليس في الأمر أي ظلم في أن ينال المرء ما يستحق… 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى