في ميزان السيد وزير العدل / محمد المختار الفقيه

في الوقت الذي تنخرط فيه دول كثيرة في إصلاح شامل وعميق لمنظومة القضاء منطلقة من الإيمان الراسخ بدوره المحوري في أي تطور سياسي، اقتصادي أو اجتماعي، ورغم الندوات و أيام التشاور والتفكير التي نظمت على مدى ثمان سنوات هي عمر تواجدي في هذا الحقل الملغوم بالجمود،

 فقد اتسمت ممارسات جل الوزراء المتعاقبين بالنظرة المسطحة لمشاكل القطاع التي تبدأ من الانفصام الأزلي بين القول والعمل، والقطيعة الممنهجة بين الممسك بزمام الوزارة والشأن القضائي اليومي:القضاة في واد والوزارة في واد! وادي القضاة تعتبره الوزارة الوصية “وادي الذئاب” التي تتنتهك الحرمات و تسبح في دماء الخصوم، و أما وادي الوزارة فإنما تسكنه ملائكة الرحمة التي تُجيش الخبراء، تنفق على الدراسات، تنظم الأوراش، وتجوب العالم من أجل أن تقضي على “الذئاب” و تستأصل شأفتهم!! إن هذه الوزارة التي يكمن مبرر وجودها في تسيير مرفق القضاء و خدمته تحقيقا لواجب إقامة العدل، و خدمة لأمن البلد واستقراره ونموه، لا تعتبر نفسها معنية بشأن من شؤون القضاء عدا ما تعلق بالحركة القضائية السنوية التي تسوى فيها المطالب الشخصية، و القبلية، و الجهوية، على حساب النجاعة والفاعلية والتدبير الجيد للمرفق. و رغم أني لا أحبذ  أن أنساق في فخ الراهن وتفاعلات اللحظة المشحونة بالإحباط لدى جمهور القضاة الذين لا يتخندقون في زوايا مافيوزية أو قبلية أو جهوية أو زبونية؛ فإنني أسجل أسفي على الدرك الذي وصل إليه التعاطي مع أحوال القطاع من قبل من ينتظر منه أن يقيل عثرته و يصلح من شانه، و أقصد بذلك الوزارة الوصية ممثلة في معالي السيد وزير العدل، و الزملاء المحترمين في نادي القضاة الذي لا أنتمي إليه أصلا لأسباب شخصية ليس هذا محل بسطها. واستباقا لأية تنبيهات فإنني أسجل في المبتدأ الملاحظات التالية: أولا: أن لدي من وشائج القربى والمودة الشيء الكثير مع معالي السيد وزير العدل و محيطه الأسري الذين هم أهلي و خاصتي من الناس، ثانيا: أنني مجبول على التحفظ، هكذا خلقت، وهكذا أحب أن أبقى، ولعل صفة التحفظ تلك هي الصفة الوحيدة التي وهبني الله تعالى دون سواها من صفات القاضي، ثالثا: لو كنت أعلم أن معالي الوزير سيعيرني سمعه حتى أستوفي ما أقول لما كتبت حرفا مما سأقوله هنا و لطرقت بابه المشرع لكل من هب ودب، لكنني موقن أن سمعه محتكر من قبل زميلي و أخي المدعي العام و سعادة نقيب المحامين المُزكىَّ، وآخرين من دونهما الله يعلمهم!! رابعا: لو كنت أعلم أيضا أن في وقت معالي الوزير متسعا للقراءة لسلمته ملاحظاتي هذه يدا بيد ممهورة بالعبارة المكرسة ” سري للغاية”، لكن التجربة علمتني أن رفوف مكتب معاليه تعج بالملفات والدراسات والمذكرات ومن بينها مذكرات حررناها بطلب من معاليه يوم “تربعه على عرش الوزارة” لم يقرأ منها سطرا، و لم يناقش فيها أحدا على حد علمي، رغم انسلاخ عام و ثلاثة أشهر على ذلك!! ويجدر بي هنا أن أستثني من ذلك تلك القصاصات التي ألزم سيادة الوزير القضاة بتعبئتها تحضيرا للمجلس الأعلى للقضاء في دورته الأخيرة؛ إذ يبدو أن فائدتها كانت أكبر مما تصور القضاة يوم صدقوا أنها تُنبئ عن تغيير في سلوك الوزارة!! وبعد، فإنني أعلم أكثر من غيري أن معالي الوزير قادر على الاعتذار مرات و مرات؛ فقد قال ذات مرة، وتحت قبة البرلمان، وفي سياق القراءة، إنه قادر على سحب كل كلامه، لكن الاعتذار وطلب المغفرة إذا تحول إلى عادة يعطي نتيجة عكسية، خاصة إذا تعلق الأمر بمنصب حساس و بموضوع حساس: منصب الوزير المكلف بالعدل (بلغة زميلتي سابقا ساندرين) وموضوع القضاء في بلد لن تقوم له قائمة ما لم يُعِد للقضاء هيبته و مكانته و اعتباره. فما قيمة الاعتذار المتكرر لقاض مسكين و ناد كسير لا يملك من مقومات القوة إلا بيانات كبياني هذا وبلغة كلغتي العربية التي هي سبب البلاء و أصل داء القضاء المستحكم!! لقد كان معالي وزير العدل  في غنى عن الظهور في هذا البرنامج لأنه لم يكن لديه ما يقوله سوى الحديث المعاد عن الصراع الوهمي أو الحقيقي بين المحظريين: خريجي المعهد العالي وزملائهم خريجي كليات الحقوق، و الخلط في المفاهيم، و الدفاع عن القضاء بأضعف الحجج، و التهم الجاهزة التي لا يحق لعامي أن يتفوه بها في حق القضاء أحرى من يمسك بزمام الشأن القضائي. وكما سبق و طُرح السؤال في منبر مختلف على معالي وزير العدل حين صرح في معرض رفضه للطعن لصالح القانون بأنه تعرض لضغوط وصلت إلى حد عرض المال عليه في مكتبه؛ فكان السؤال الوجيه: لماذا لم يستدع معاليه الشرطة وهو رئيس النيابة و من بيده زمام الدعوى العمومية و قد تعرض لمحاولة الرشوة؟ فإنه يحق لنا التساؤل الأكثر وجاهة: لماذا وقد حاول بعض القضاة جره للتأثير عليهم لماذا لم يستدرجهم ويمسكهم متلبسين ويطهر الجسم القضائي من هؤلاء السفلة الفاسدين؟ أليس هذا من أوجب واجباته كوزير للعدل أريد له أن يشترك في جريمة إبطال الحقوق ومن طرف قاضي حكم مؤتمن على الأموال و الأنفس والأعراض؟ لا أعتقد أن قاضيا وصل به الفساد الأخلاقي إلى هذا الحد جدير بحماية وزير العدل؛ بل لا أعتقد أن قاضيا يصل به الغباء إلى هذا الحد!! أما زملائي في نادي القضاة فعليهم أن يعلموا أن مصالح القضاة المهنية والاجتماعية تستحق تضحيات كبرى تبدأ من التخلص من عقلية المجموعات المهددة و من رواسب القبيلة و الجهة لتسمو إلى مراتب الإيمان بأن القضاء أمانة في رقاب القضاة و أن الذي يحني رأسه مرة لا يستطيع أبدا أن يرفعه. إنني أحيط من لا يعلم من عامة الناس وخاصتهم أن وزارة العدل في فكرها و منهجها و وسلوكها اليومي هي أول معوق و أكبر عقبة أمام إصلاح القضاء، ولا تَغُرَّن أحدا منكم الخرجات الإعلامية التي يقصد بها ومنها إيهام السلطات العليا بان القطاع في أحسن أحواله، و لا تخدعن أحدا من بينكم الأوراش و الندوات التي تقام تنفيذا لبرامج سنوية؛ فهي لا تقدم بل تؤخر في واقع القضاء لأن الوزارة إنما قامت على رجال يعتبرون القضاء سقط متاع يجب أن يضرس بالأنياب و يوطأ بكل منسم! إن القضاء يعاني و المسؤولية، الأولى تقع على عاتق وزير العدل أولا و أخيرا، فهو ترجمان الحال و لسان مقال القضاة و إذا كان الحديث الشريف يعلن أن القضاة ثلاثة: قاض في الجنة و قاضيان في النار، فإن الوزير يُعين وحيدا ويُقال وحيدا؛ فليشفق على نفسه من أن يصيبه شرر نار القاضيين المُحَرَّقين! أن يتمادى وزراء العدل في تضليل السلطات العليا بأن القضاء بخير، و أن أحوال القضاة، والمحاكم، والسجون على ما يرام؛ فذلك جرم يدفع المتقاضون ثمنه يوميا و ستدفع أجيال قادمة أثمانا أكبر إذا لم يتدارك الأمر. و أخيرا و ليس آخرا و نحن على أبواب الاحتفال بسنة قضائية بعد تعطيل لهذه التظاهرة من طرف وزراء عدل سابقين فإننا نأمل أن يكون غد القضاء أحسن من يومه، و أن تعمد السلطات العليا لتشكيل هيئة عليا مكلفة بإصلاح منظومة القضاء إصلاحا شاملا يحقق أهداف البلد في الرقي السياسي، و الازدهار الاقتصادي، و يحمي لحمة وتماسك المجتمع و أمنه و استقراره. علينا نحن القضاة أن نعلم أن أجيالا حالية و أخرى قادمة من القضاة تستحق أن نضحي من أجلها بأن نورثها جسما قضائيا طاهرا من كل ما نحمله من رواسب الفساد و الجهل و الاستهانة بمنصب القضاء الذي لن أمل من تكرار أنه تدخل بين الخالق والخلق، فهل من مُدَّكر؟! ألا هل بلغت اللهم فاشهد!!  *إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب*. صدق الله العظيم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى