نهاية الديمقراطية الليبرالية أو نهاية الغرب؟

Mohamed Beddyد. محمد بدي ابنو *

 

“إذا تبدلت الأحوالُ جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصْله وتحولَ العالمُ بأسْره. وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفة وعالمٌ محدث.” ابن خلدون

 

 

لم يغفر كثيرون، من أنصار النهاية الفوكيامية، لالكسندر زينوفييف – الكاتب والمنطقي الروسي الذي رحل سنة 2006 – مواقفَه بعد نهاية الحرب الباردة التي تختصرُها عبارتُه الذائعة:

“الليبراليون أشد خبثاً من الستالينيين. أعرفهم فهم يتشابهون كما تتشابه الفسافس في ثنايا خشب الإسبة.”

ولذلك هبط في العقدين الأخيرين الاحتفاءُ بأعماله في كثير من الأوساط التي كانت تَعتبر كتبَه فتوحات كونية. فقد كرستْه كما هو معروف دورُ النشر العالمية بعد صدور “المرتفعات الفاغرة” سنة 1976. صارَ زينوفييف منذ أواخر الحقبة البريجنيفية وبمقتضى منطق الحرب الباردة أحدَ النماذج البارزة للمثقف الروسي المارق على الاتحاد السوفييتي والذي تباهي به الدعاية الليبرالية. فقد وقف الكسندر زينوييف ضد ستالين بل حاول اغتياله – كما روى ذلك لاحقاً.

 

ـ 2ـ

بعد صدور “المرتفعات الفاغرة” بعدة لغات بدأتْ مطاردتُه وبدأ تشرّده. فاستقر في ألمانيا الغربية ليصبحَ أستاذا للرياضيات وفلسفة العلوم بجامعة ميونيخ. وأخذتْ كتبُه تتالى ونقمتُه تزداد على ما يسميه البيروقراطية التي تلدها الأيديولوجيا السوفيتية. فعرفتْ أعمالُه رواجاً كونياً. ولكنه بعد انهيار الحلف الشرقي فاجأ مادحيه ومقرظيه الليبراليين بكتابيْه “الغربوية” و”القطيعة الكبرى”. الأطروحة الأساسية لـ”القطيعة الكبرى” هي أن انتصار “الغرب” في الحرب الباردة وتتويج الهيمنة العالمية للولايات المتحدة كان أيضاً تتويجاً لنهاية أوربا الغربية كفاعل في التاريخ. فالأخيرة “لم تعد صانعة للتاريخ بل أضحت مستسلمة له”. حضارة أوربا الغربية عاشتْ في نظره ذروتَها مع تكون دولها القومية، ثم جاء القرن العشرين كإعلان أولي عن انهيارها. ولكن صاحب “المرتفعات الفارغة” يرى أيضا أن انهيار أوربا يحمل معه تزامنيا انهيار الديمقراطية. فانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة بالقضاء على التعددية القطبية قد قضى بنفس المستوى على شرط ضروري من شروط الديمقراطية.  فانتهاء الحرب الباردة قد دشّن في نظره مرحلةً ليست فقط ما بعد شيوعية ولكنها أيضا ما بعد ديمقراطية.

 

ـ3ـ

هل مثلتْ “القطيعة الكبرى” ارتداداً على ماضي صاحبه كما توحي العبارة الصحافية انشق عن انشقاقه” ؟ حاول زينوفييف الإجابة على هذا السؤال من خلال مقال نُشر عشية عودته إلى روسيا سنة 1999 وحمل عنوان “لماذا أعود إلى روسيا؟”. وفيه : “لكي أجيب على هذا السؤال علي أن أجيب عن آخر: لماذا وجدتُ نفسي منذ خمس وعشرين سنة خارج روسيا، في الغرب؟” ويجيب مطولاً على السؤال الأخير بما مقتضاه أن معارضته كانت بسبب العداء الذي واجهتْه أعمالُه العلمية والأدبية التي يتضمن جلُّها “وصفاً دقيقاً للمجتمع السوفيتي”.

ولكن بداية التسعينات عرفتْ انهيار الاتحاد السوفيتي وتدمير النظام الاجتماعي السوفيتي في البلدان المكونة لها. ولم ينتج عن ذلك في روسيا الازدهارُ الذي وعدتْ به الدعاية الغربية. ولكن على العكس من ذلك عرف المجتمعُ تقهقراً متسارعاً في كلّ الميادين السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والأخلاقية والاجتماعية. وهنا تبدأ تعقيدات جديدة تتكشف لزينوفييف. فـ”قول الحقيقة” في وصف المجتمع السوفيتي هو الذي جعله يُطرد من بلده. وما يكتبُه عن روسيا المابعد سوفيتية يَجرُّ عليه مقاطعةَ أعماله العلمية والأدبية، ويجعل إصدارَها ونشرها مستحيلاً عملياً.

 

ـ4ـ

خـلْفَ هذا الموقف البالغ التشاؤم نكتشف بين العبارات نوعا من تأنيب الضمير يتجلى من حين لآخر حين يتحدث زينوفييف عن أنه أخذ في السنوات الأخيرة للحرب الباردة يكتشف المخطط الغربي لإلغاء روسيا وتحويلها إلى “شعوب بدائية غير قادرة على حكم نفسها”. فالتعددية القطبية مثلتْ بداهةٌ على الصعيد الدولي مصدراً للتوازن السياسي على الصعيد الجيوستراتيجي كما على الصعيد الداخلي لكلّ دولة. فهي التي كانت خلف وجود توازن مثمر بالنسبة للدول الليبرالية. فظلّ التنافس مثلاً مع الحلف الشرقي يقوي الهيئات النقابية داخل الدول الغربية، ويُرغم الأخيرة على تطوير الحقوق الاجتماعية والعمالية. وهو ما يجعل زينيفيوف يؤكد ككثيرين غيره على أن تراجع الطابع الاجتماعي للديمقراطيات الغربية في العقدين الأخيرين هو تراجع للديمقراطية ككل. كما يؤكد على وجود تناقض جذري بين الاحتفاظ بمكتسابات الليبرالية السياسية وحرياتها وبين انتصار الليبرالية الاقتصادية كما يُكرّسُه مثلا تَغوّل التدوير العولمي لرأس المال.

 

ـ5ـ

هل انتهتْ نهاية التاريخ الفوكيامية وانتهى معها الابتهاج بـ”انتصار الليبرالية”؟  لقد تحققّتْ على الأقل عناصر دالة من التوقّعات الشبنغلرية حول تراجع مكانة أوربا في العالم. وهو ربّما ما يعنيه تغيرُ معنى مفردة “الغرب” الذي لم يعد يحيل من الناحية الجيوستراتيجية إلى أوربا الغربية. بدأ على الأقل تاريخ آخر أو تاريخ مختلف باستعمال عبارات حركة العولمة البديلة. وهو بالتأكيد تاريخ ستحاول فيه روسيا أن تستعيد مكانة ما إلى جانب القوى العالمية الجديدة كالصين والهند التي أخذتْ تتحرك بحذر ولكنها تتحرك. فـ”القطيعة الكبرى” ليستْ إلا واحدة من قطائع أخرى. ومخيلة التاريخ تظل دائما أكثر خصوبة ممن يتوهمون أنهم صناعه.

 

 

* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى