رواية «أيام الماعز» لبنيامين «أن ترى صورتك في عيون الآخر»

الزمان ـ ما الذي يجعل من رواية ما جاذبة ومشوّقة وفوق كل ذلك تترك أثرًا في القارئ يصعب التخلص منه بسهولة؟ ثم هل يجب أن تكون هذه الرواية بمعايير ثابتة من حيث الدقة في رسم الشخصيات والأمكنة ومن حيث عمق الأفكار والمضامين؟

في رواية «أيام الماعز» أو «الإنسان الماعز» يتضح أن نوع الرواية أو شكلها لا يعني شيئا، الشيء المحرك في كل الروايات هو «قوة الحدث» وهو ما ترتكز عليه هذه الرواية، طبعا بإمكانها أن تصبح عملا مختلفًا من حيث الاشتغال على العديد من الجوانب الإضافية والتوغل أكثر في كل المساحات ( الشخصيات، الأمكنة، الأفكار، الرؤى، اللغة..الخ) لكن ذلك لم يمنع أن تكون هذه الرواية مميزة بهذه البساطة، البساطة الجارحة التي تدميك وأنت تقرأ واقعًا إنسانيًا، تصادفه كل يوم بأشكال متعددة، والأهم أنك تنتبه لطريقة تعاطيك مع هذا الكائن الغريب الذي جاء للعمل في وطنك، أن تنتبه ان هذا الكائن هو إنسان مثلك تمامًا، له أحلام وأطفال ورغبة حقيقية بحياة أفضل. النظر بعين معرفتك لا بعين الواقع هو ما يقودنا للجحيم.. حين غادر «نجيب» الكيرالي مطار مومباي كان يقول لصديقه الذي استضافه وجاء يودعه كما يقول كل كيرالي «خليجي» عندما يودع صديقه في المطار، تركتهما مع وعود بأنني سأرسل لهما فور وصولي في المطار تأشيرتين لهما، سأحصل عليهما بالاحتيال على عربي..صـ36ـ  بهذه الروح والأفكار وصل نجيب لبلد خليجي وقاده حظه العاثر في الوقوع بين يد «أرباب» سيعمل على مسخ أفكاره وروحه قبل جسده، كل ذلك سيتم في مجاهل الصحراء، الجحيم الذي يسميه «مسّرة» «مزرعة» وهي زرائب لتربية الماشية، سيعتاد نجيب أن الماء محرم ( لا استنجاء ولا استحمام) الماء فقط للشرب. سيحصل كل يوم على حصته من الخبز «الكُبوس» وجلدات السوط أيضًا، لأنه لم يتعلم اللغة العربية منذ أول ساعة، سيجلد كل يوم مرة لأنه فشل في حلب الماعز، وأخرى لأنه لم ينته من الأعمال في وقت قياسي، مرة لأن يده كُسرت من نطحة تيس، سيجلد لأنه خاف على معزة تضع مولودا وبقي يحرسها بينما تفرق القطيع، سيجلد ويضرب لأنه حاول التحدث لبشر، سواء كان صاحب شاحنة الماء أو الأعلاف التي يراها كل شهر، سيُضرب ويجلد لأكثر من ثلاث سنوات. سأستجلب ذكرى فلم «Cast Away» بطولة «توم هانكس» الذي يجد نفسه بعد تحطم الطائرة وحيدا على جزيرة نائية. ماذا يفعل الإنسان «الكائن الذي يعيش في جماعات» إذا وجد نفسه وحيدا لزمن طويل جدا؟ في هذا الفلم يستأنس «هانكس» كرة ويخلق منها صديقا ويسميه «ويلسون» أما نجيب فيحول الأغنام لشخصيات عرفها في بلده، أهل وأصدقاء، ممثلين وسياسيين أيضا.. «هل سبق لكم أن نظرتم بتفحص في وجوه الأغنام؟ سترون أن كل وجه منها يشابه وجه واحد من الناس! سميت أغنامي بأسماء ليس فقط نظرا إلى تشابه الوجوه، ولكن أيضا إلى سلوكياتها أو طريقة مشيتها أو صوتها أو نظرتها أو حادثة تتعلق بها.. بالضبط كما يستقر لقب ما على شخص في قريتنا» صــ131ـ تستطيع أن تنتج من هذه الرواية كتيّبا عن «كيف تصبح راعيا جيدا في أقصر فترة ممكنة» أو «كيف تحلب ماعزا أو كيف تتجنب الرفس والنطح في الزريبة» في هذا العمل اجتهاد في عملية البحث عن تاريخ ترويض الإنسان للأغنام وصفاتها والفوارق بينها. نجيب الذي تحول لماعز، لأن حياته ارتبطت بهذه البهائم فأحبها ومارس الجنس مع بعضها، وأطلق أسماء أبنائه على صغارها، أكل من أعلافها وحرّم على نفسه لحمها. في هذا الجحيم وسط الصحراء مر على عدم استحمامه عشرة أشهر قبل أن يهطل المطر، لكن ماذا حدث عندما جاء الماء؟ «ولما هبطت على جسمي قطرة المطر الأولى، تلوّيت كأنني تعرضت لطعنة خنجر.. إن لم تخني ذاكرتي، فهذه أول مرة تمس جسمي فيها قطرة ماء منذ حوالي عشرة أشهر.. وكان ذلك تجربة أليمة. وبعد قليل، اشتدت زخات المطر وأحسست بكل قطرة طعنة نافذة في جسمي. ولم أقدر أن أصبر على الألم.. أسرعت إلى أخذ بطانية تحميني من تلك الطعنات». صـ208ــ لكن ليست هذه الطعنات الوحيدة في هذه العزلة، ثمة نوع آخر من الألم وهو الحنين للوطن، هكذا يداهمك وأنت في أقصاه بعيدا وفاقدا لأبسط الأمور التي تعينك على الغربة، وتستعين باليأس حين يصبح الأمل خطيرًا ومتعبًا.. «لا أحس اليوم بأنني أعاني من شيء في حياتي.. بل ما عليّ من بأس في الواقع..؟ استيقظ في الصباح.. أحلب الغنم، أعلف الأغنام والجمال.. أرعى الأغنام في البادية.. أرجع بها.. أتناول قطعا من (الكبوس).. أنام تحت أشعة الشمس المباشرة أو تحت ضوء القمر.. لا أفكار.. لا هموم.. لا أحلام.. لا أعلم شيئا يحدث في العالم.. فماذا ينقصني..؟ قد نسيت عائلتي وبيتي ووطني.. لا تهمني حياتهم ولا أحزانهم ولا آمالهم.. كل تلك الخواطر أصبحت غريبة عليّ كما هي بالنسبة لميت انتقل إلى العالم الآخر أو لمن يعيش في قرن آخر».. صــ142ــ لكن الأمل مخادع يغفو ويستيقظ فجأة، لذلك حدث الهروب، كما في فلم «الهروب الكبير» من السجن المحصن، الفارق أن في هذا الفلم استطاع 250 سجينا الفرار، بينما الهروب من الصحراء لم يكن بهذه النتائج، وتركز الرواية على بيئة الصحراء ومجاهلها والمشاهدات الغرائبية وكيفية النجاة المستحيلة، آلاف من قطعان الأفاعي تزحف نحو هدفها، أسراب من الحرباء الطائرة، العناكب السامة، العقارب القاتلة، وليس آخرها العواصف الرملية، تقطع الصحراء بلا ماء ولا زاد، يموت عبد الحكيم، يختفي القادري، قبل أن يصل نجيب لبر الأمان وتتلقفه العناية الإلهية حتى يتم ترحيله لوطنه، ومن الجيد الإشارة للعبة «الكفر والإيمان» داخل الرواية وهي طبيعة بشرية واقعية، لكن الترويج للإيمان كان طاغيا لدرجة أن يكون هو المنجاة الحقيقية من كل هذا الجحيم. المفارقة الرهيبة في نهاية الرواية حين تكتشف أن «الأرباب» لم يكن الكفيل الحقيقي لنجيب وإنما قام بخطفه من المطار مع صاحبه ووضعهم في مؤخرة البيك آب ثم رميهم في الصحراء واستعبادهم لرعاية الأغنام، تم ذلك بكل هدوء. الجدير بالذكر أن كاتب الرواية عاش في البحرين لمدة 24 عاما ولدية – بغض النظر عن الترجمة- روح ساخرة وساحرة في السرد، لم ينح بها لعالم بوليود في المبالغات، بل جاءت متزنة وغير جارحة للواقع المعاش وهذه إمكانية مدهشة، إلا أنه برغم لذة السرد وتصاعد الأحداث كان بالأمكان اعطاء الجانب الآخر مساحة أكبر – أعني حياة نجيب السابقة في كيرلا وكيفية حصوله على الفيزا، الصعوبات، الديون، تعاطي المحيط، كل هذه الأجواء نحن نفتقدها، ونعلم فقط أن الآتين قد باعوا كل شيء واستدانوا من أجل الحصول على عمل. رغم كل ذلك هذا عمل مهم جدًا ويستحق أن يكون بمكتبة كل عربي، ليرى نفسه من خلال نظرة الآخر له.

  المصدر: قراءات  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى