أمير الشعراء: حين يكون الشعر هو الغائب الأكبر

altمسابقة (أمير الشعراء) الذائعة الصيت جدا، لاسيما في الساحة الثقافية وحتى العامية الموريتانية، والتي نتابع هذه الأيام شئنا أم أبينا نسختها الخامسة، ونحن شغوفين بها لحد الهوس المرضي المزمن ،مسابقة قوية للشعر التقليدي (الموزون عروضيا) والموريتانيون فرسان دائمون في أروقة (شاطئ الراحة) ، وأمراء محرزون ومتوقعون وسالفون ،وندماء مقربون .

وهي كذلك من المسابقات الشعرية الوازنة ـ على الأقل ـ شكليا ،والتي أجرت مياه عكاظ الفحولة الحماسية تحت جسور المدن العربية المخطوفة بالسياسة ،وأعاد عنوانها المألوف قليلا من الجدل حول إمارة الشعر والأمير المفقود منذ رحيل شوقي المتوج بمباركة الوفود الشعرية ،وعلى رغم البعض ،وحلم الأدباء باستمرار اللقب على نحو ما فعل عميد الأدب طه حسين بتتويج العقاد أميرا ،وما جر هذا العمل الذي كان اندفاعة مزاجية مؤقتة من سخرية وتهكم ،وادعاء الشاعر اللبناني أمين نخلة الوصية من شوقي بالإمارة ،ثم أخيرا مطالبة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم بلقب الإمارة ،بلهجة الدعابة ووصية من الجواهري .

لكن مسابقة (أمير الشعراء) الجانحة صوب مزاج التسلية والدعاية المكثفة، تمخضت حتى الآن عن أربعة أمراء توجوا باللقب الجليل ،ونثر عند أقدامهم الورد والورق الملون، وطارت صورهم عبر الأكوان الفسيحة للميديا الخليجية السخية ، وأغدق عليهم المن والسلوى ،وألبسوا بردة الإمارة في جو بديع رائق ،غير أن هؤلاء الأمراء ظلوا تماما مجهولين ،مطوقين بالخمول والنسيان السريع ،وكأنهم فازوا باليانصيب !

نعم لقد رفعت المسابقة عددا من الشعراء ،وأنالتهم شهرة نسبية ،فضمتهم إلى مصاف الضيوف الدائمين على حمامات الاغتسال بالأضواء البراقة للمهرجانات ،وقدمت للبعض ضمانا لتذكرة سفر ،وإقامة في فندق خمس نجوم ،وتبديد الحرف في قاعات الإلقاء ،وكان هؤلاء تحديدا ـ وهو أمر يدعو للتأمل ـ من شعراء الصف الثاني والثالث في ترتيب المسابقة .

وبقي الأمراء المجهولون يتوغلون في اللامبالاة غائصين في اللامعنى ،كأشخاص أعتني بإطعامهم وهندامهم جيدا ليستخدموا في أدوار (كومبارس) ثم لا يعودون يجذبون العناية والاهتمام بعد ذلك .

تعود هذه الظاهرة كما يعود موت الشعر عموما في رحاب المسابقة التي تجلت منذ انطلاقتها الكاسحة هدية كريمة يمنها رعاتها الخليجيون ،ولا يفتؤون يقربونها لصورة مسابقة (الهجن ) ومسابقة الزجل (الغزل في الإبل) ،تعود أسباب موت الشعر إلى عدد وافر من المقتضيات والمعوقات المخطط لها سلفا ،والتي عصفت بحلم الإمبراطوريات الشعرية في كون المسابقة (بيضة قبان) فريدة سيولد من رحمها فجر الندي ،ويهل زمن البرامكة ، ويمطر المتنبي برد القوافي ،حيث يخر لصلصلتها الجود ،وتوزن أثمان القصائد بالنفائس ،وأحاله إلى لهاث محتدم يشتد عنفوانه ولغطه الإشهاري ،ويتم فيه خلق وإعداد عبيد المهرجانات ،واكتشاف شعرية الباذنجان ،لإرضاء بائع الخضار ،وصولا لاختراع القصيدة (البترودولار) التي تفوز في جدلية الحفل التنكري ،ويكرم شاعرها البائس ملحقا بأذيال الإبل ،وأميرا مزيفا يجمع صدقات اللقب ،ويتطربه تهويل الإعجاب والتصفيق الساري من لعاب التآمر على روح القصيدة المنشودة .

ولما كانت لا توجد معايير نقدية واضحة ،ولا أدوات ووسائل فنية للتصفية واختيار النصوص ،وأصلا لا توجد لجان فرز قادرة على فهم وغربلة دقيقة حقيقية ،كما لم ترس مناهج متكاملة كفيلة بتلقي المواهب ،واستدرار القرائح ،ثم بلورة الفحولة والتعرف على مكامن الإفلاق ،وتلمسا في الأخير للذات المرهفة للأمير المستحق الفاضل ،الذي تتطلع إليه الساحة الثقافية منذ أحمد شوقي ،وتلك عملية ضخمة لا تستطيع دولة ولا هيئة حمل عبئها بمفردها مهما كانت إمكانياتها ،والإمكانيات المادية أهونها ،وتستتبع جهودا جبارة ،وإعداد أرضية ممهدة ،ومبادئ ومناهج جادة ،لا تسريب المال النفطي التائه ،لدغدغة النفوس الغضة ،وإطلاق سموم التلوث في البيئة الثقافية الهشة .

العجيب أن هذه المسابقة قد طوى الزمن ذكر أمرائها وأصبحوا أقل شهرة بالنسبة للصفوف المتأخرة من الشعراء الواقعين دونهم في الدرجة ،أو حتى المتساقطين عن صهوات القصيد دون ذلك .

فما هو السر في في هذه المعادلة الغريبة ؟

والأعجب ملاحظة (أنجمية) القصائد الركيكة، فكل قصيدة أخيرة متوجة كانت شكلا شاحبا مفككا ميتا لا حياة فيه ، تماما مثل قول الناظم الساخر:

الأرض أرض والسماء سماء … والماء ماء والهواء هواء

والصيف صيف والشتاء شتاء …والنار قالوا إنها حمراء

كل الرجال على العموم مذكر … أما النساء فكلهن نساء

الميم غير الجيم جاء مصحفا… وإذا كتبت الحاء فهي الحاء

والماء قيل بأنه يروي الظما.. واللحم والخبز السمين غذاء

وفي مقال للشاعر العراقي ليث فائز الأيوبي ، وهو شاعر زار المسابقة مشاركا مرة ، ويقول بأنه لم يقتنع بها، ولكن نزولا عند رغبة أديب عراقي كبير شارك متعرفا على ماهيتها ، ويحدثنا عن جانب مهم من كواليسها ، وما يجري ويدبر من وراء (البلاتو) المشع البهيج ، وخلف قسمات اللجنة ، وبسمة المقدم السحرية .

يكشف ليث فائز الأيوبي عن اللجنة المشرفة على البرنامج، أكبر القائمين عليها شاعر عراقي كان لسنوات رابضا تحت أقدام الرئيس صدام حسين، وحوله إماراتيون لا يفقهون من أمور الشعر إلا قليلا، ووراء الكواليس خبراء في الإعلان والدعاية ، مهمتهم اصطياد اللقطات الدرامية واللحظات المسلية ، وتركيب واستجلاب الأجواء السينمائية الطاردة للملل ، ولجنة التحكيم اللا متجانسة ، ترتكز على قطبين غير معلنين هما : الدكتور صلاح فضل ، والدكتور عبد الملك مرتاض ، والأول من أقطاب النقد البنيوي في مصر، والثاني أكاديمي ورائد للتعريب في الجزائر، أما الإماراتي المدلل فهو بمثابة أيقونة ورد صناعي في حديقة طبيعية، وهو مع باقي الأعضاء وكما دلل على ذلك تعاقب النسخ لزوم ما لا يلزم .

والغريب أن الشاعر ليث ، ينقل لنا لقائه لبعض المشاركين والذين اجتازوا مراحل مهمة ، أكدوا له عدم قدرتهم على الوزن العروضي ، وجهلهم بالبحور الخليلية ، ثم باغتوه بارتجال الشعر على المسرح .

وأظن شخصيا بأنه من الأدلة الصارخة على فشل المسابقة في التعرف على التجارب الفنية الرائدة والحداثية ، رد اللجنة للشاعر ببهاء ولد ابديوة ، وهو شاعر قدير وكبير ، وذا أبعاد ضاربة في الإبداع البكوري ، وكذلك سقوط شعر أحمد بخيت أمام تلك المعايير المائعة ، وتقديس القصيدة النموذج في التزلف ومصالحة الواقع كما هو ، وتبديد السحب الحالكة المتكاثفة حول المراقد السابحة في قيلولة النسيان .

وفي قصيدة للشاعر ليث الأيوبي بعنوان : عاهل الشعراء يقول ملمحا لبعض هذه الأمور:

ماهمني من ناصب الماء العداء.

ومن تحصن بالحصى

وتخندقوا

ما همني أبدا

رعاة الإبل

في سوق المواشي

غربوا أم شرقوا

عفوا أمير الشعر

هذا مربط

للإبل والبعران

مهما أغدقوا.

بقلم: عبد الله ولد حرمه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى