“الزمان” تعيد نشر تحقيق عن حادثة “الرصاصات الصديقة”

altفجأة، بات اسم “أسويهل”أحد أشهر أسماء الأماكن الموريتانية المتداولة في الإعلام والرأي العام الموريتاني منذ شكل حلقة رئيسية في الحادث الغامض الذي تعرض له الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز مساء 13 أكتوبر/ تشرين الأول ،2012 حيث أصيب بطلق ناري من ثكنة عسكرية عن طريق الخطأ، وفق الرواية الرسمية، في طريق عودته من “أسويهل«، ذلك المنتج الصحراوي الرئاسي، الذي ظلت أخباره تشبه الخرافات .

وحيث لايزال الرئيس الموريتاني يواصل العلاج في باريس منذ 31 يوماً على التوالي فيما تحاط حالته الصحية بسرية تامة، وسط موجة من الشائعات والتسريبات عن الحادث وملابساته، هل هو “حادث عرضي”وفق الرواية الرسمية، أم “حادث حميمي”أم “عائلي”وفق الروايات الشعبية، أم محاولة اغتيال، وفق ما يذهب إليه خبراء ومحللون وجزء من النخبة الموريتانية، وما قصة “أسويهل”الذي كان مقراً لآخر وجبة غداء تناولها الرئيس في الوطن .

طريق صحراوي يمتد لمئات الكيلومترات وشمس حارقة ومخاطر

بغض النظر عن ملابسات حادث الرئيس، وحقيقته، وتداعياته ونتائجه، وتأثيره في مصير البلاد، شكل “أسويهل”الحلقة الوحيدة الثابتة في حكاية “الرصاصات الصديقة«، فالرئيس أمضى يوم السبت (يوم الإصابة) في منتجعه بمنطقة “أسويهل«، ومن هنا طار اسم هذا المكان ليتحول إلى “رمز”و”علم”بين الخاصة والعامة مستمداً شهرته من حادث الرئيس، ومن “الأساطير”عن هذا المكان الغامض، حيث أدمن الرئيس قضاء عطلته الأسبوعية ولقاءاته الخاصة جداً بين “باسقات النخيل وعذراوات الطبيعة والجن . .”. وفق تصور الرواية الشعبية .

“الخليج”كانت أول وسيلة إعلام عربية ودولية تدخل منطقة “أسويهل”وتجري تحقيقاً ميدانياً عنها، وتقتفي آثار الرئيس في آخر رحلة له من منتجعه الريفي إلى حين تلقيه “الرصاصات الصديقة«، ومن خلال هذا التحقيق نلقي الضوء على “التشكيل الجغرافي”والتاريخي للمنطقة، التي باتت الأشهر في البلاد، والتي بات كل مواطن موريتاني يتطلع لمعرفة أي شيء عنها .

فكرة الرحلة . .

كانت الساعة التاسعة ليل الثلاثاء (6/11/2012)، حيث اتصل الزميل شنوف ولد مالكيف، المدير العام لوكالة أنباء “الطواري”بمكتب “الخليج”في موريتانيا، طالباً لقاء مستعجلاً وخاصاً، وحين التقينا، أكد الزميل شنوف أن الموريتانيين يتوقون لمعركة منطقة “أسويهل«، وأنه قرر إيفاد فريق صحفي لإجراء تحقيق عن المنطقة، وأنه يكرم “الخليج”بين كل وسائل الإعلام الأخرى بقيادة هذا التحقيق .

لم يكن علينا إلا العودة للمكتب وانتظار الموعد الذي لم يحدد، تماماً على طريقة التعليمات العسكرية بالانتظار، ومن ليلة في متاهات شبكات التواصل الاجتماعي، واللقاءات بزعماء النخبة الموريتانية من موالاة ومعارضة وسيل من المكالمات الهاتفية من الكتاب والمحللين والصحفيين، التي تود مناقشة وضع البلاد وأسرار حادث الرئيس وصحته وآخر الشائعات والتسريبات، وخبايا الصراع على تركة “رجل المنفى المريض«، ارتفع أذان الفجر لنختم الصلاة بالنوم ساعتين، قبل أن يضيع حلم جميل بفضل “الطرقات الصديقة”حيث أيقظنا الفريق الصحفي وهكذا نقفز إلى مقعد السيارة مع الآيباد والمصورة والسجائر ودواء الملاريا والصداع، ولثام بدوي .

في مقاطعة “دار النعيم«، شمال نواكشوط، نتوقف لشراء المؤونة والتزود بمستلزمات الرحلة، كان الزميلان زايد ولد محمد وأسند في المقاعد الخلفية، وكنت إلى جوار السائق محمد الأمين، عندما صدر أول قرار متعلق بالرحلة وهو أن أتولى قيادة الفريق الصحفي بحكم الخبرة، ف”قلت طيب وإن كنت أشم في هذا التشريف اعتبار أنني الأكبر سناً، وربما الأقل صبراً«، وكان ذلك مقدمة لدخولنا في حوار اجتماعي ثقافي تاريخي سيتقطع كثيراً خلال مراحل الرحلة، حيث المعلومات الأولية “ستخترقون حزاماً عسكرياً متحفزاً، وتزورون منتجعاً يحرسه الحرس الرئاسي، وأي شك في هويتكم سيكون كارثياً”.

الانطلاقة من البوابة الشمالية للعاصمة نواكشوط، نتجاوز نقطة تفتيش الشرطة ثم الجمارك، ثم الدرك، يبدو وجه السائق مألوفاً لنقاط التفتيش، ثم نواصل على طريق نواكشوط – أكجوجت، فنمر ببلدة “أطويلة”40 كلم شمال نواكشوط، ونشاهد اللافتات المحذرة من أن هذه منطقة رماية وتفجيرات، وإلى الشرق والغرب تتطاير الخيام والرعاة وقطعان الإبل في السهل الواسع، الذي تحفه من الشرق القواعد والوحدات العسكرية، التي تبدو آلياتها من بعيد وتجمعاتها، وحراسها المتوثبون، هنا في هذه المنطقة تعرض الرئيس الموريتاني لثلاث رصاصات من ملازم في مشاة القوات الجوية، ويبدو إطلاق النار التحذيري فوق السيارات والعابرين أمراً مألوفاً في هذه المنطقة التي تحدها من الشرق سلسلة من كثيبات الرمال الصفراء، التي تخفي وراءها الحزام العسكري الذي يؤمن العاصمة من الشرق والشمال، إننا الآن في مواجهة بوابة الصحراء، حيث المسالك الوعرة للقاعدة والمهربين، وشبكة الرعاة التي تنتشر في المنطقة وزودتها الاستخبارات بأجهزة الاتصال للإبلاغ عن كل شارد ووارد .

أين الدليل البشري؟

بعد أن قطعنا سبعين كيلومتراً، ولم يعد جهاز التكييف ليصمد أمام الحرارة الشديدة، فتحول إلى مساند للقيظ ينفذ الهواء الساخن، نكتشف أن السائق لا يعرف المنطقة، ومسالكها، ولا المكان الأحجية لبئر “أسويهل«، نتأكد أن مهمتنا أصبحت في خطر، وكان ذلك يتطلب قراراً سريعاً، وهو العودة إلى نواكشوط، لاستجلاب “جي . بي . إس”بشري، ذلك الدليل الذي يعرف المنطقة أكثر من نفسها، ويعايشها يومياً، كان ذلك قراراً صعباً، لكن الزملاء ابتلعوه مع النكات، وعدنا إلى العاصمة نواكشوط، بعد الاتصال هاتفياً بالدليل، الذي وجدناه في انتظارنا في مقاطعة “تيارت”ومن جديد عاودنا بدء الرحلة، لنمر على نفس نقاط التفتيش، وبسلام مرة أخرى، قبل أن تفغر الصحراء فاها وتمتلئ الآفاق بالسراب كأنها مرآة مقعرة، ويتحول الأمر كله إلى الدليل، الذي أخبرنا قائلاً “تدخلون منطقة خطرة جداً، ومعرضون لإطلاق النار في أي لحظة، ولكشف أمركم من أي راع نلتقيه، أحرى بكم توقيفكم من قبل العسكر”.

كانت الساعة الثانية ظهراً، والشمس تثبت نسبها إلى الجحيم، عندما انعطفنا مع الطريق الصحراوي، أي نفس الطريق الذي سلكه الرئيس في عودته من منتجعه ب”أسويهل«، وبدأت عابرة الرمال أمام اختبار صعب، بين السير على أرض جرداء منبسطة ذات طبيعة قاسية، وكأننا نسير على مسبحة من حبات الصخور الصغيرة، كانت المطبات الكثيرة تدفعنا غريزياً لحماية رؤوسنا من الارتطام بهيكل السيارة، لكن سرعان ما تتغير جغرافية الطريق، فتبدأ المعاناة مع بحر الرمال الأول المسمى “الذراع«، وهو عبارة عن كثبان رملية شديدة الليونة والبياض، تمتد شمالاً وجنوباً بعرض عشرة كيلومترات، وبطول شبه لا متناه، وقد استخدم السائق كل مهاراته وكل إمكانات محركه القوي وتروسه لينتقل من غوص إلى آخر في الرمال التي يبدو أنها مشبعة بشهوة الابتلاع، من أرض “تفلي”نسير على بسيطة تمتد 25 كلم، ثم منطقة “تباع أكيليد«، ثم “أفزويتن”التي تمتد 65 كلم، ثم “مقطع نبكت ولد زيد”تمتد 6 كلم، ثم “أمعيليمه”التي تمتد 10 كلم، ثم ننعرج من عند “أمدينات الطبول«، لنكون على بعد ثلاثين كيلومتراً من “أسويهل”في جنوب “آمليل«، وهو عبارة عن سهل واسع بطول مئات الكيلومترات، ينتهي في ما يعرف ب “السيل”.

مع توغلنا في بلعوم الصحراء المفتوح، نتذكر أن أول قبر معروف بالمنطقة يعود تاريخه إلى أربعة قرون ويوجد ببلدة “آكويليل الرفايك”وهو قبر الرجل الصالح أحمدناه ولد عمر الأمغري، وعلى طريق “أسويهل”تكثر الحكايات التاريخية عن الفرسان والغارات، وعن ضحايا العطش .

ثم يبشرنا الدليل بأن الطريق ستتحسن قريباً وفجأة تظهر الأرض كما كانت “ركا«، كما يسمى محلياً، أي أرض شبه منبسطة قاسية تمتد على مدى النظر من دون معلم، وتنطلق السيارة بسرعة سبعين كيلومتراً في الساعة لتقطع عشرات الكيلومترات، قبل أن يلوح في الأفق شبح الكثبان فهناك “الذراع”الثاني من بحر الرمال الذي عبرناه بمعجزة، قبل أن تعاود الأرض انبساطها وننعرج جنوباً هذه المرة وكأننا عائدون من حيت أتينا، وبدأت قطعان الماشية تظهر من حين لآخر، ومع كل ماشية راع مريب، وحاولنا تجنب المرور بقطعان الماشية ورعاتها، وفق تعليمات الدليل، الذي أخذ يسخر من شكوى الزملاء من صداع الشاي، وأمنياتهم بشرب كأس شاي واحدة وبأي ثمن، لم يكن في متناولنا سوى السجائر والماء الذي يقترب من درجة الغليان .

في الساعة الرابعة تحاول سيارة “هيلكيس«، انطلقت بشكل مفاجئ من تل صخري اللحاق بنا، لكن الدليل يأمر بزيادة السرعة وتجنبها بأي ثمن، وهو ما كان حيث تنفسنا الصعداء عندما رأيناها تغير وجهتها وتعود إلى حيث كانت . يقول الدليل ما هؤلاء إلا أصحاب ماشية يريدون اعتراضكم وسؤالكم عن حيوان أو شيء، لكنهم فوراً سيتعرفون عليكم ويبلغون عنكم، فهؤلاء مختصون في تحديد هوية الأشخاص، ويعرفون كل شخص وكل قبيلة وكل “دخيل”على هذه المنطقة .

إلى أسويهل

بعد ساعات من السير، وعند الساعة الخامسة إلا الربع مساء، يأمر الدليل بأخذ المزيد من الحيطة والحذر، فقد أصبح المنتجع الصحراوي للرئيس، على بعد خمسة كيلومترات فقط، ويجب بدء تطبيق الخطة المتفق عليها فوراً، وهكذا بحثا عن أقرب شجيرة في هذه الأرض الجرداء على مد البصر، وأنزلنا الدليل لأنه معروف في المنطقة والزميل أسند الذي كان في بذلة مدنية مثيرة للشكوك في وسط ريفي بدوي، وأمرناهما بإعداد الطعام ريثما نعود إليهما، وتخلصنا من القمصان، ووضعنا اللثام البدوي التقليدي، وتحركت السيارة باتجاه البئر القديمة “أسويهل”التي تقع في سهل أجرد حيث التقطنا صور البئر التاريخية، وأخفينا أجهزة التصوير وانطلقنا باتجاه المنتجع الرئاسي الذي يبعد حوالي كيلومترين من البئر القديمة، حيث يتراءى هوائي الاتصالات من بعيد، كنا نحفظ جغرافية المكان كما لقننا إياها الدليل، في البداية من الشمال مزرعة النخيل التي تتضمن ثلاثمئة نخلة بمساحة تقارب 2500 متر مربع، وحولها سياج وبالكاد ترتفع رؤوس النخيل نصف متر فوق سطح التربة، تمتد بينها شبكة أنابيب المياه، ثم حاويات المياه، ثم البئر الارتوازية الجديدة، ثم إلى الجنوب حاوية حديد مربعة، ثم بيت قصدير يستعمل كمتجر بدوي، ثم على بعد أمتار إلى الغرب من ذلك يقع سياج محفوف بالسعف يحف مقر إقامة الرئيس وهو عبارة عن غرفتين مركبتين ومقر لأجهزة الاتصالات، وسيارة بيك اب، ومخزن أسلحة وذخائر، هذا هو المنتجع الصحراوي الذي أقامه الرئيس منذ سنتين ويزوره في الأغلب كل أسبوع، ولولا أنه منتجع رئاسي لما كان مثيراً للفضول لبساطته وتقشفه، ولولا أنه شكل حلقة في مسلسل إصابة الرئيس لما كان له ذكر .

عندما اقتربنا من المكان لاحظنا أن العمال وجنود الحرس الرئاسي، لجأوا إلى ظل حاوية المياه الضخمة المرفوعة عن الأرض بمساند من الإسمنت المسلح، فعرج السائق بالسيارة شرقاً متجاوزاً المكان ثم غرباً ليقف أمام المتجر، ليكون ذلك جزءاً من مبرر قدومنا، وسرعان ما رأينا صاحب الحانوت يهرول قادماً إلينا، وكانت تلك فرصة لالتقاط صورة على عجل قبل إخفاء الكاميرا .

لم يمهلنا التاجر البدوي، فبعد أن تلا علينا الترحيب التقليدي، أخذ على الفور يسأل عن هوياتنا القبلية، وعن وجهتنا ومقصدنا، ويبدو أن رفيقي (السائق والزميل) آثرا ترك المهمة لي، فابتعدا باتجاه شرق الحانوت، فيما كان التاجر يلح على معرفة هويتي القبلية، فأجبته ببرودة أعصاب ستعرفها حين تسقيني كأساً من الشاي، فضحك، وقال “على رأسي . . كل شيء موجود . . الشاي، والشراب، والأكل . . أهلاً وسهلاً”. وتوجهنا إلى حاوية المياه التي تحلق تحتها الجميع يشربون شاي المساء . . وقبل أن أمنحهم الفرصة، طلبت إعداد الشاي بنفسي وعلى ذوقي الخاص، فابتسموا ملبين طلبي، لكن “التاجر”واصل الاستفسار عن هويتنا وعن وجهتنا، فأخبرته على الفور بالقصة الملفقة الجاهزة التي يبدو أن الحاضرين اقتنعوا بها، وأخذوا في الانفتاح علينا، فسألونا عن أخبار الرئيس، وعما يردده أهل نواكشوط في هذا المجال، فكان ذلك فرصة لنا، لنعرف كم يحب هؤلاء الرجال الرئيس ولد عبد العزيز “المتواضع الذي يسقي هذا النخل بيده«، و”حين يأتي هنا يعمل كأي شخص منا مثلما فعل يوم السبت، يوم الحادث الأليم«، و”قصة حبه للفقراء وحبهم له«، وشجاعته . . . إلى غير ذلك .

لكن سرعان ما ينقطع هذا الحديث بعد عودة الرجل الذي ذهب مع مجيئنا إلى مقر جهاز الاتصال، حيث سألنا عن الطريق الذي سلكناه للوصول إلى هنا، ولما حددناه له، وقف موجهاً كلامه إلى “التاجر”قائلاً “دع عنك الخوض في ما تقول، إذا كان هؤلاء يقصدون المكان الذي ذكروه، فوفر عليهم الوقت واركب معهم حتى لا يضلوا في هذه الصحراء، وإذا كانوا متوجهين إلى نواكشوط فاركب معهم ليوصلوك إلى هناك”.

كانت لهجة الرجل حادة وجازمة، وبدا أنه أصاب عناصر الحرس الرئاسي الذين كانوا في أثواب مدنية بعدوى التوتر، فانتفض الجميع واقفين وعلى أهبة الاستعداد للأمر التالي، لأبقى وزميلي على الأرض، وقد أصبحنا بالفعل محل شك وشبهة وأمام الحرس الرئاسي المعروف بشراسته وحزمه .

نظرت إلى زميلي، وكانت نظراتهما تشير إلى أن الفخ أحكم علينا، وتذكرت سيناريو الدليل: “سوف يلقون القبض عليكم، وسيفتشونكم، وينتزعون آلات التصوير، ويضعونكم في السلاسل، ويتصلون بالقيادة، وسوف يستخدمون أجهزة المقراب ويلقون القبض علينا، وستصل مروحية أو دورية بسرعة البرق وتفشل مهمتكم”.

لم يكن الأمر يتطلب كثيراً، فالهجوم خير وسيلة للدفاع بلغة هؤلاء العسكريين، ووقفت مادا أصبعي إلى الرجل الذي قال قبل أن أتكلم “أنا الكوبرال فلان”وكأنه بذلك يمهد لأمر ما، لكنني قلت له “اسمع . . ماذا تريد . . هل تريد إيصال هذا الرجل إلى نواكشوط أم تريد مساعدتنا . . أم تريد شيئاً آخر . . أنا فلان ابن فلان (باللقب) . . وأنت قلت إنك فلان وأنا أعرف قبيلتك شخصاً شخصاً، فمن أي بطونها، من أي أسرة فيها؟ تفضل نحن نعرف بعضنا . . وأنا قصتي كذا . .«، ومكره أخاك لا بطل، كانت القصة محبوكة بشكل لا يمكن تكذيبه، ولها شواهد من آخر قطعان الإبل التي دخلت المنطقة منذ يومين، ويبدو أنني خلالها استعدت بسرعة فائقة ثقافة “خف الجمل”.

فجأة ساد الارتياح وجوه الجميع، وأخذ الضابط في الاعتذار إلينا، وأصرّ علينا أن نأخذ معنا كل ما نحتاجه من مؤن ومواعين شاي فكل شيء متوفر”.

توجهت إلى البئر الارتوازية التي كانت نافورتها تطلق المياه في الهواء، فاخبرني الحرس ألا اقترب من الماء لأن به مواد كيمائية، وعرضوا علي المياه من الحاوية فاغتسلت منها، وعندما ودعونا بحرارة وانطلقت السيارة، دخل زميلاي في موجة هستيرية من الضحك، وكان كل همنا أن نصل إلى بقية الفريق بأسرع وقت، ونرمي أمتعتنا في السيارة التي انطلقت بسرعة قياسية خوفاً من تتبعنا، وقرر الدليل أن نسلك طريقاً هو الأكثر وعورة حتى تكون أي محاولة للحاق بنا مستحيلة، وهو ما تأكدنا منه حين اتجهنا عكس اتجاه العاصمة، وغصنا في بحر الرمال لأكثر من خمسين أو ستين كيلومتراً، قبل أن نصل إلى الطريق المعبد على بعد مئة كيلومتر من مدينة “أكجوجت«، بعد ساعات من المعاناة ومن حين لآخر معالجة سخونة محرك السيارة رغم أنها جديدة، ومن نفس نوع سيارة الرئيس، والتغلب على بالوعات الرمال التي توقف حركة السيارة وتجعلها تتحرك عمودياً إلى الأسفل فقط .

كان أول ما قمنا به فور وصولنا نقاط التغطية الهاتفية هو إرسال الصور الرئيسة عبر البريد الإلكتروني لتصبح في مأمن، في حالة كان هناك تعميم بإلقاء القبض علينا .

كانت مشاهد الصحراء مخيفة وجميلة في آن واحد، وكان الخوف من نفاد الماء أو تعطل السيارة والضياع في هذه البيداء، لا يمنع من التقاط صور جميلة لغروب الشمس على “آمليل«، وصور أخرى للذكرى، وسيل من النكات، والتعليقات حول أسباب اختيار الرئيس لهذا المكان الوعر .

“آمليل”. . علم وصحراء

يقع “أسويهل”في سهل واسع على بعد 240 كلم شمال شرق العاصمة نواكشوط، ويعتبر الوصول إليه مهمة شاقة لوعورة الطريق، يحفه من الغرب والشرق بحران من الرمال، وتوجد فيه مرتفعات ذات تربة صخرية، وأشجار قليلة متباعدة، ونباتات من نوع “السفانا”وشجيرات البان والطلح، ونبتة “اسكاف”المشهورة عند الموريتانيين بأنها تمنح لبن الإبل نكهة خاصة، وتجعله صحياً يشفي من عشرات الأمراض المزمنة، بما فيها الهزال والضعف العام . ويفتخر أي موريتاني أنه تعشى من “لبن آسكاف«، أي لبن الإبل التي تنتجها هذه النبتة ذات الخضرة المائلة إلى اللون الداكن .

وتوجد عشرات الطرق التي تؤدي إلى “أسويهل”لطبيعته الوعرة، ورغبة المنتجعين في اكتشاف الطبيعة الصحراوية البكر، والاستمتاع بالفلوات ومناظرها الجذابة، وقطعان الماشية التي يتخذ أغلبها وكراً من هذا المكان، وخاصة الإبل التي يشبه لونها هنا لون المكان المائل إلى الحمرة الداكنة .

تؤكد روايات الرعاة وثقافة المكان أن الرئيس الموريتاني اختار “أسويهل”منتجعاً صحراوياً له لكونه يتيح الجمع بين عدة مزايا، فمن ناحية يوفر الهدوء والهواء الصحي الطلق، فهواء الساحل مركب دوائي عجيب بحسب سكان المنطقة، كذلك ما يوفره المكان لهواة ركوب السيارات وقيادتها من تنوع طبوغرافي ينتقل بين الرمال والسهول والمرتفعات، والمنعرجات، إذ يرسم المكان لوحة عجيبة تندمج فيها الطبيعة الصرفة، خاصة وأن ولد عبد العزيز ذو خلفية ميكانيكية ويعشق السيارات، والقيادة في الطرق الوعرة، كما يعشق الصحراء، وسبق وأن رفع شعار “موريتانيا الأعماق«، أي عمق الصحراء وثقافتها وناسها وعالمها .

كما يقع “أسويهل”على مقربة من بوابة “أوكار«، ذات الطبيعة الصحراوية الفاتنة، وهي إحدى المناطق القليلة في البلاد التي لايزال يتوافر فيها الصيد البري من وعول وحبارى وطيور وأرانب .

كما توفر هذه المنطقة الجو الأمثل للاحتكاك مع الوسط البدوي الموريتاني، بكل عفويته وحكاياته وطرائفه ونوادره وصراحته، وأريحيته، وغرائبيته .

وتقع إلى الجنوب الشرقي من “أسويهل”منطقة “لبيرات”التي تمتد لأكثر من 100 كيلومتر، وهي ذات آبار مياه معروفة بعذوبتها، ولا تقارن في البلاد سوى بمنهل “بنشاب«، وإلى الشمال الغربي تمتد أرض “إنشيري”بجبالها وسهولها الواسعة، ومناجمها من ذهب وحديد ونحاس وفوسفات، وهي المنطقة التي يقع فيها أكثر من ألف مؤشر منجمي واعد، وكبريات الشركات المعدنية في البلاد .

منطقة “أسويهل”فاصل جغرافي بين ثقافتين اجتماعيتين، حيث مجتمع “لبيرات”جنوباً، ومجتمع الساحل، المعروف بفروسيته وأساطينه العلمية والشعرية، فعلى مقربة من “أسويهل”كانت تجمعات قبائل العرب، التي تفتخر بأنها قبائل لغة الضاد، ومنها انحدر الشاعر الكبير محمد ولد الطلبة اليعقوبي المتوفى سنة 1856م، والذي كان لا يدخل حياً لا يوجد فيه القاموس، ومن نفس الوسط انحدر العلامة النابغة الشيخ محمد المامي (من مواليد 1206ه)، الذي ألف “كتاب البادية«، ودعا لقيام دولة مركزية، ومنها أيضاً ينحدر العلامة محمد بن الفاضل بن الفقيه موسى (الجعفري) الذي اشتهر ب”المجيدري”(ت 1204 ه)، الذي هاجر من شنقيط وهو ابن خمس عشرة سنة، ومر بالمغرب وكان السلطان يجلسه بين يديه ويجمع له العلماء تقديراً لعلمه، ثم خرج إلى الحج حيث التقى محمد بن عبد الوهاب، الذي تأثر بدعوة المجيدري، ثم عاد المجيدري إلى موريتانيا ودعا بدعوته السلفية المشهورة، التي أثارت مساجلات معروفة بين العلماء الموريتانيين .

إذن تاريخ منطقة “أسويهل”زاخر بشرياً وجغرافياً، وهو ضمن المنطقة التي امتد إليها تقليدياً نفوذ الوسط العائلي للرئيس محمد ولد عبد العزيز .

تعليقات ومعلومات

عندما كانت السيارة تنطلق في إحدى المفازات القاحلة، كان أحد الزملاء يتساءل كيف للرئيس أن ينكر وجود الجفاف وهو يمر أسبوعياً بهذه الأرض؟ لماذا اختار الرجل منطقة خطرة، كانت الطريق الأفضل للمهربين والسلفيين، ولم “أسويهل”بالذات الذي يقع في مفازة لا توجد فيها مياه عذبة، وحتى البئر الارتوازية الجديدة التي حفرها الرئيس فماؤها مالح وغير صالح للاستهلاك البشري، وسكان المنطقة القلائل يعتمدون على المياه المجلوبة من مسافات بعيدة .

نتأكد من شهود عيان ومن الرعاة أن الرئيس أمضي المقيل يوم السبت (13/10/2012) في “أسويهل«، وأنه استيقظ باكراً ومارس رياضة الجري إلى غاية الضحى، حيث عاد وتناول وجبته المفضلة (المشوي الموريتاني التقليدي)، وفي حدود الثانية زوالاً وصلت إلى عين المكان سيارة تحمل أشخاصاً تم الاشتباه فيهم، وخلال ربع ساعة حامت مروحية عسكرية في سماء المنتجع الصحراوي، وتزامن ذلك مع التأكد من هوية الأشخاص الغرباء، لتغادر المروحية سماء المنطقة، ولكن في الساعة الثالثة ظهراً حطت مروحية عسكرية أخرى، وركب فيها شخصان من مكان إقامة الرئيس، هما حارسان مغضوب عليهما؟ أم ضيفان كانا مع الرئيس؟ شكل ذلك لغزاً للخاصة، لكن تحريات “الخليج”تؤكد أن الرئيس كان مصحوباً ذلك اليوم بأحد أبنائه، الذي أخبر والده بعدم رغبته في السفر براً لصعوبته، فقال له الرئيس “لا مشكلة ستأتيك المروحية . وهكذا كان ابن الرئيس أحد الشخصين اللذين صعدا الطائرة .

تؤكد الروايات المتواترة أيضاً، أن موكب الرئيس المؤلف من سيارتين فقط غادر “أسويهل”بعد صلاة العصر (الساعة الخامسة مساء)، وأنه سلك الطريق الوعر المار قرب “حرث خالد”إلى “أطويلة«، أي الطريق الذي سلكناها، وأن سيارة الحماية تأخرت عن سيارة الرئيس مسافة طويلة بسبب السرعة التي قاد بها الرئيس، ويضيف أحد الرعاة “شاهدت السيارة الأمامية لقد كانت تسير بسرعة جنونية، وخيل إلي أنها من سيارات رالي السباق، وقلت ويل هؤلاء إذا مروا بالقرب من المناطق العسكرية هناك في أطويلة”.

يبدأ اللغز الحقيقي في رحلة الرئيس الأخيرة من “أسويهل”عند الاقتراب من مقر الوحدات العسكرية شرق “أطويلة«، فالرئيس بحسب الرواية الرسمية وصل مسافة ستة كيلومترات من الطريق المعبد عند الثامنة إلا عشر دقائق بعد الغروب، وعندها اعترضه المشهد التالي “سيارة صغيرة تحمل لوحة أجنبية، ومسلحان بلباس مدني وأحدهما ملتح”. يوحي هذا المشهد بأن الرئيس وقع في كمين نصبته القاعدة التي أعلنت إهدار دمه، وتوعدت علنا أنها تسعى لاغتياله، ومن هنا قرر الرئيس عدم التوقف لإطلاق النار التحذيري، وواصل سرعته الجنونية ليقوم الملازم الحاج ولد حمود بإطلاق 14 رصاصة باتجاه سائق السيارة (الرئيس)، وبرر الملازم وجوده في الزي المدني بأنه كان في استراحة عندما شاهد أضواء السيارات واشتبه في سرعتها الهائلة .

وبالفعل اشتهرت الوحدات العسكرية بمنطقة “أطويلة”بكثرة إطلاق النار التحذيري، وحتى استهداف عجلات السيارات من دون إنذارها، وقبل أربعة أشهر أطلقت النار على موكب الرئيس في نفس المنطقة قبل أن يتوقف ليتم التعرف إليه . ويروي أصحاب السيارات حكايات طريفة عن اعتراضهم من قبل الجنود هناك وتفتيشهم تفتيشاً دقيقاً ثم إرغامهم على أداء رقصات وأغان وتمثيل مشاهد مضحكة، قبل السماح لهم بالمغادرة، وهناك بالفعل أوامر بإطلاق النار على أي سيارة لا تتوقف للتفتيش .

أين كان الرئيس يتجه ساعة الحادث؟

لا تترك الروايات المتواترة مكاناً للجدل، أن موكب الرئيس دخل منطقة “أطويلة”مع الأصيل، وتأكدنا أنه يملك قطيعاً من الإبل في نفس المنطقة، وأن العديد من أسر المسؤولين والضباط ورجال الأعمال والمتنزهين تتواجد بهذه المنطقة مع الغروب للتمتع بالهواء الطلق، وشرب لبن الإبل الطازج، حيث عشرات القطعان التي تروح على الخيام المنصوبة على طول طريق “أكجوجت – نواكشوط«، لكن ما لاحظناه ان منطقة إطلاق النار لا يوجد فيها وحدات عسكرية حالياً، والراجح أنها تنسحب وتعود، كما أنه من النادر أن تخترق أربع عشرة رصاصة سيارة ولا تتعطل، ويلاحظ أن السلطات عرضت الضابط الذي أطلق النار، لكنها لم تعرض سيارة الرئيس، كذلك من الغريب أن يصاب الرئيس بثلاث رصاصات ولا يصاب قريبه الجالس إلى جنبه بأي رصاصة، ثم كيف يصاب الرئيس بالرصاص ويواصل القيادة بسرعة 160 كيلومتراً في الساعة إلى حين يختفي عن الثكنة على مد البصر، ولا تنقلب السيارة في مطبات الطريق، ومن ثم يسلم القيادة لرفيقه .

والأغرب أن ينزف الرئيس، ومن بطنه خاصة، مدة ثلاثين دقيقة ويصل “المستشفى العسكري”بنواكشوط وينزل من السيارة وهو يسير على قدميه، وهو ما رجح الرواية الشعبية عن “الحادث الحميمي«، فضلاً عن البروفة التي أجريناها وسارت بموجبها السيارة بسرعة 160 كلم من “أطويلة”إلى المستشفى العسكري بنواكشوط، ولم تطابق بأي حال الوقت المقدم في الرواية الرسمية .

ويبقى السؤال المركزي في موريتانيا: ماذا حدث بالضبط ليلة السبت الثالث عشر من أكتوبر؟

أهو حادث عرضي، أم حميمي، في مخدع رجل من وسطه العائلي، ووفق فخ محكم من جهة ما، أم إطلاق نار من حارس أهين، أم من أحد أفراد العائلة لأمر ما . . هل تم إطلاق نار في ضواحي العاصمة أم في داخلها، أم هي محاولة اغتيال من جهة ما؟

ولماذا لم “ينجد”الأمريكيون رواية الحكومة الموريتانية، بعد أن أجرت “الإف بي آي«، وفوراً، تحقيقها الخاص عن حادث الرئيس الموريتاني؟

إنها نفس الأسئلة المطروحة على أعلى مستويات النخبة بما فيها كبار الضباط وزعماء الأحزاب، وباستثناء الرئيس وقائد الأركان وأشخاص معدودين في رحلة “أسويهل”لا أحد يعرف الحقيقة تماماً .

 الرواية أكدتها الحكومة بعد لحظات من الحادث، وخرج الرئيس بنفسه في اليوم الموالي ليؤكدها من سريره الطبي، لا يخرج الحادث عن “نار صديقة”في طريق العودة من “أسويهل«، لكن كم هي أشكال صداقات النيران، مع كل روايات الرعاة في منطقة “أطويلة«، التي تؤكد أنهم لم يسمعوا إطلاق نار تلك الليلة، وأن أول ما شاهدوه بعد الثامنة مساء هو سيارة إسعاف يتبعها موكب من سيارات الدرك، ما يثير المزيد من الشكوك .

 

منذ عودتنا إلى نواكشوط تتوالى الاتصالات الهاتفية من شخصيات وازنة ومسؤولين كبار وكتاب وصحفيين وزعماء حزبيين، تطرح ألف سؤال واستفسار، وأولها متى تنشر “الخليج”تحقيقها، لكن جهة مهمة جداً اتصلت هاتفياً لنفهم في النهاية بعد حديث طويل أنها تريد أن نتجاهل قصة المروحية .

تتأكد “الخليج”وهي تقتفي آثار الرئيس الموريتاني قادماً من “أسويهل”أن الرئيس كان في منتجعه الريفي يوم السبت 13 أكتوبر، وما عدا ذلك يبقى ضمن دائرة الشكوك، وتضارب الروايات والتكهنات في حادث هو الأكثر جدلاً في تاريخ البلاد .

نقلا عن صحيفة “الخليج”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى