ذ كرى إعدام ابطال المحاولة الانقلابية فى أكتوبر 1987

altفجر السادس من ديسمبر 1987، وعلى بعد حوالي 500 متر جنوب قاعدة اجريده، نفذ حكم الإعدام شنقا ورميا بالرصاص في ثلاثة ضباط موريتانيين زنوج هم: با صيدي، صار آمادو وسي صيدو، بعد إدانتهم يوم 3 من نفس الشهر بجريمة المساس بأمن الدولة.

وإذا كان من الجلي أن قساوة الأحكام الصادرة بحق هؤلاء الضباط وعشرات من رفاقهم في السلاح، وسرعة تنفيذ الإعدام، أريد لها أن تكون رسالة ردع لكل من تسول له نفسه التفكير في “تغيير التوازنات العرقية التي قامت عليها الدولة”، فإنه من الجلي أيضا أن تلك الطريقة الساذجة في التعامل مع ملف بالغ التعقيد، كانت خطأ فادحا كلف المجتمع والدولة أثمانا باهظة.

في تلك الفترة كانت حركة قوات التحرير الإفريقية في موريتانيا “افلام” المتطرفة، الوليدة، تبحث عن قوة دفع تعمق الكراهية بين البيظان والزنوج وتصل بالقطيعة بينهما الى نقطة اللا عودة، وكانت سلطة ولد الطايع الناشئة تبحث عن قاعدة اجتماعية تستند إليها للبقاء أطول فترة ممكنة في السلطة. وكانت المراهقة الثورية وقصر النظر أفضل خصال الفريقين حينها، فقرر كل منهما تقديم هدية للآخر، لتدخل موريتانيا أحلك مراحل تاريخها حيث السجون والقتل والسلب والترحيل والتآمر…

كانت (افلام) قد تأسست يوم 14 مارس 1983 بعد اندماج كل من الاتحاد الديمقراطي الموريتاني، منظمة الدفاع عن مصالح الزنوج الأفارقة الموريتانيين، الحركة الشعبية الإفريقية الموريتانية وحركة التلاميذ والطلاب السود. وهي منظمات زنجية تخرج أغلب قادتها من رابطات ثقافية ظلت تنشط منذ بداية السبعينات بهدف تطوير اللغات الزنجية ومواجهة خطر الاستلاب، أو من المنظمات السياسية اليسارية التي نشطت بداية السبعينات، بالإضافة إلى قادة حركة الاحتجاج المدرسية ضد تعميم 1979.

انتظرت الحركة حلول شهر ابريل 1986 لتصدر وثيقتها ذائعة الصيت تحت عنوان: “صرخة الزنجي الموريتاني المضطهد (فبراير 1966/ابريل 1986)”، لافتة النظر بقوة إلى وجود “مشكلة تعايش حقيقية بين المجموعة العربية البربرية والمجموعة الزنجية” ومحذرة في نفس الوقت “من مخاطر المواجهة التي يمكن أن تنجر عن عدم سرعة معالجة السلطة لهذه المشكلة”. وقد شجبت هذه الوثيقة –التي وزعت في العديد من العواصم الإفريقية والأوربية- “عنصرية الدولة ونظام الأبارتايد الذي يكرس الهيمنة الفعلية للبيظان على مختلف مفاصل الدولة”.

جاءت “صرخة الزنجي الموريتاني المضطهد” بمثابة إعلان ميلاد لفاعل سياسي جديد، لكن مضمون هذه الصرخة وخطورة الخلاصات التي توصلت إليها جعلت السلطة تنظر شزرا إلى المولود الجديد وتضعه تحت الرقابة المكثفة. وفي 31 أغشت 1986 تمت إقالة وزير الداخلية العقيد آن آمادو بابالي –في خضم حملة ضد البعثيين- بتهمة التغطية على حركة “افلام”، وتم إعطاء الملف للمقدم جبريل ولد عبد الله الذي سيعرف لسنوات بالرجل الثاني في نظام ولد الطايع.

لم يتأخر المقدم ولد عبد الله في مباشرة مهمته الجديدة، حيث بدأ في الرابع من سبتمبر (أي بعد أربعة أيام من تعيينه) حملة اعتقالات طالت العشرات من قيادات “ثورة المثقفين الزنوج” بتهم عقد اجتماعات غير مرخصة وتوزيع منشورات تمس الوحدة الوطنية والتمالئ مع الخارج.. استهدفت الاعتقالات حوالي ثلاثين من قيادات افلام، بينما قامت القيادات التي نجت من الاعتقال بمحاولة تنظيم ردة فعل لإعطاء النظام فكرة عن مدى قوتها. ومن بين أبرز المعتقلين المؤرخ واللغوي با عمر، الوزيرين السابقين ديغو تبسيرو ولي مامادو، النائب السابق با عبد العزيز، الكاتب تن يوسف غي، الصحفي آمادو مختار صار، الأستاذين صال إبراهيما وصار آبدولاي، الباحث صيدو كان.

وستعرف مدن مثل نواكشوط وانواذيبو وكيهيدي خلال شهر سبتمبر وبداية أكتوبر، احتجاجات مكثفة تميزت أحيانا بالعنف الموجه ليس ضد المصالح العمومية فحسب، بل ضد المواطنين المدنيين وممتلكاتهم. وستؤدي تلك الاحتجاجات الأولى من نوعها في البلاد–والتي وصفتها السلطة بالإرهابية- إلى إحراق عدد من سيارات الموظفين ومحطة للتزود بالمحروقات وسوق ومصنع، قبل أن يعلن مدير الأمن النقيب اعل ولد محمد فال يوم 13 أكتوبر عن “السيطرة على المنظمة السرية” وعن رفض السلطات “السماح للإرهاب بالوجود في موريتانيا سواء كان مصدره داخليا أو خارجيا”..

وفي تعليقه على تلك الأحداث، اعتبر الرئيس ولد الطايع –في مقابلة له مع مجلة “جون آفريك” بتاريخ 14 سبتمبر أن الأمر يتعلق “بعناصر هدامة تسعى لجر البلاد إلى حرب أهلية.. عناصر حاولوا إغراق البلاد في الدماء معرضين وحدة الشعب للخطر”.

وستتم محاكمة المتهمين على وجه السرعة وإصدار أحكام بالسجن على 27 منهم تراوحت بين 6 أشهر وخمس سنوات. وفي نفس الوقت ستنسحب قيادات “افلام” التي أفلتت من السجن إلى السنغال في مرحلة أولى لمواصلة نضالها حيث ستجد من بين صفوف أقصى اليسار السنغالي من يساند قضيتها. وبرمي هؤلاء في السجن المدني والتضييق عليهم وانسحاب أولئك، سيتصور النظام أن المشكلة قد وجدت حلا وأن “صرخة الزنجي المضطهد” كانت مجرد ترف فكري يهلوس به مثقفون باحثون عن الشهرة والمناصب، من دون أن يتوقع أن أكثر المراحل قتامة في فترة حكمه قد بدأت للتو.

لن يطول الانتظار طويلا قبل أن يكتشف ولد الطايع أن سلطته ذاتها مهددة وأن ضباطا وضباط صف من الزنوج يستعدون للانقلاب عليه. وفي صبيحة يوم الخميس 22 أكتوبر 1987 ستبدأ حملة اعتقالات واسعة في صفوف العسكريين الهالبولار في نفس اليوم الذي حددوه لتنفيذ انقلاب عسكري يهدف بالنسبة لمخططيه إلى “إعادة التوازنات العرقية المفقودة”، وبالنسبة للسلطة إلى “تخريب الممتلكات وتقتيل المواطنين”.

ستبدأ الاعتقالات بطريقة سرية حيث سيتم استدعاء المتهمين إلى قياداتهم وإرسالهم إلى قيادة الأركان للمثول أمام لجنة تحقيق. وبعد اعتقال حوالي خمسين عسكريا، سيعلن المقدم جبريل ولد عبد الله، وزير الداخلية، مساء 28 أكتوبر 1987 عبر وسائل الإعلام الرسمية، اعتقال مجموعة من العسكريين كانت تخطط للانقلاب على السلطة. وستتواصل الاعتقالات لعدة أيام لتطال وزير الداخلية الأسبق العقيد آن آمادو بابا لي، بعد الحصول على اعترافات تشير إلى أن الانقلابيين متفقون على تعيينه رئيسا للدولة.

وبشكل متزامن مع هذه الأحداث، نشرت السنغال قواتها العسكرية على حدودها الشمالية بحجة إغلاق الحدود لمنع انتقال عدوى الحمى الصفراء المنتشرة حينها على الجانب الموريتاني. وبدورها أغلقت موريتانيا جانبها من الحدود يوم 31 أكتوبر، وشنت السلطة حملة شرسة ضد الانقلابيين واصفة إياهم بالجناح العسكري لحركة افلام “الذي كان ينوي إقامة دولة “الولو والو” وارتكاب مجازر ضد السكان من ذوي الأصول غير الزنجية”. وروجت بأن المعتقلين اعترفوا بالجرائم التي كانوا سيرتكبونها، وأن البلاد بفضل يقظة الأجهزة الأمنية نجت من حرب أهلية مدمرة.

ميدانيا كانت لجان التحقيق تضيق الخناق على ضباط شباب وضباط صف وجدوا حلمهم ينهار فجأة بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من التحقق. لجنة التحقيق على مستوى قيادة الأركان يقودها النقيبان محمد ولد الهادي ومحمد ولد مكت، وعلى مستوى قاعدة اجريدة –التي تحولت إلى سجن للمتهمين- يقود التحقيق الرائد انجاغا دينغ والنقيب احمد ولد امبارك. ولم تدم التحقيقات أكثر من أسبوعين حصل خلالهما المحققون على ما يبحثون عنه من اعترافات.

كانت المحكمة جاهزة للانطلاق في قاعدة اجريده يوم 18 نوفمبر برئاسة العقيد الشيخ ولد بيده وعضوية النقيبين العربي ولد محمد محمود وبابي حسينو، وتمثلت التهم في “المساس بأمن الدولة وتخريب الممتلكات وتقتيل المواطنين”. قبل يومين كان قد طلب من المعتقلين اختيار محامين للدفاع عنهم وسمح لهم بالاتصال بهم. لم تكن تلك مهلة كافية لتحضير المرافعات، غير أن مكتب الهيئة الوطنية للمحامين برئاسة النقيب محمد شين ولد محمادو كان غنيا بالكفاءات الجاهزة للتطوع في مثل هذا الوقت.

خصصت المحكمة يومها الأول لقراءة التهم بعد صراع مع الدفاع حول وجود فريق من التلفزة الوطنية جاء بهدف تسجيل وقائع المحاكمة، وتم حسم الصراع في النهاية لمصلحة الدفاع بعد أن طلب من الفريق الصحفي مغادرة القاعة التي أغلقت أمام المدنيين. وفي اليوم الثاني فجر النائب العام النقيب أحمد ولد بكرن مفاجأة من العيار الثقيل حين طالب بإعدام 11 متهما، مركزا مرافعته على البرهنة على وجود الانقلاب وعلى طابعه العنصري وعلى أن من خططوا له هم جناح عسكري لحركة “افلام”.

كان المتهمون ال 51 مكدسون في الجانب الغربي من قاعة الجنود التي تستضيف المحكمة. ومع أنهم كانوا يدركون حجم المخاطر المحدقة بهم، إلا أن أيا منهم لم يتصور أن يكون الإعدام هو ما ينتظره بالنظر إلى أنه تم اعتقالهم قبل الشروع في تنفيذ الانقلاب. وطوال أسبوعين سيكافح الدفاع باستماتة منقطعة النظير من أجل انتشال من يمكن تخليصهم من حبل المشنقة، مركزا على عدم تبرير طلب الإعدام بناء على المادتين 83 و84 من المدونة الجنائية وعلى أن الانقلاب لم يكن ليعتبر مساسا بالأمن الوطني في حالة نجاح منفذيه في الوصول إلى السلطة.

وفي يوم 3 ديسمبر سقط الحكم غير القابل للاستئناف كالصاعقة على الانقلابيين وعلى هيئة الدفاع. فرغم أن طلبات النائب العام كانت مؤشرا قويا على نية النظام التعامل بقسوة مع الملف، إلا أن السماح لسجناء حركة افلام في السجن المدني بلقاء ذويهم لأول مرة بالتزامن مع انطلاقة محاكمة العسكريين، تم تفسيره بأنه قد يكون مؤشرا على عزم ولد الطايع الجنوح إلى التهدئة وأن ذلك سينعكس على الأحكام الصادرة. وهو ما لم يكن دقيقا بالمرة بالنظر إلى قساوة الأحكام:

3 أحكام بالإعدام؛

18 حكما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة؛

9 أحكام بالسجن 20 سنة مع الأشغال الشاقة؛

5 أحكام بالسجن 10 سنوات مع غرامة 300 ألف أوقية؛

3 أحكام بالسجن 5 سنوات مع غرامة 300 ألف أوقية؛

6 أحكام بالسجن 5 سنوات مع وقف التنفيذ؛

تبرئة 7 متهمين.

وينقل أحد الضباط المدانين بالضلوع فى تك المحاولة وهو بوي آلاسان هارونا –مؤلف كتاب: “كنت في ولاته”- أن العقيد آن آمادو بابالي الذي تمت تبرئته عجز عن كفكفة دموعه التي سالت بغزارة فوق خديه، بينما أظهر الثلاثة المحكوم عليهم بالإعدام الكثير من عدم الاكتراث واستمروا في الحديث مع رفاقهم من دون أن يظهر عليهم أي تأثر.. لكن الوقت لم يعد للثرثرة حين يتعلق الأمر بحكم للإعدام قابل للتنفيذ في أية لحظة. تم الاتفاق مع المحامين على تقديم التماس عفو إلى الجهات المختصة، قبل أن يعزل الثلاثة كل في زنزانة.

وفي مساء 4 دجمبر طلب الملازم با صيدي تحويله من زنزانته الانفرادية، فنفذ سجانوه آخر رغبة له ليتمكن من صيام يوم 5 دجمبر بين مجموعة من رفاقه. وفي مساء نفس اليوم طلب الملازم صار آمادو لقاء رفيقه الملازم بوي هارونا ليقدم له ساعة يده كهدية وليخبره بأنه شاهد قبل قليل من نافذة زنزانته شاحنة تحمل أعمدة خشبية ومجموعة من الحبال مما يعني أن حكم الإعدام سينفذ فيه مع زميليه صباح الغد.

حاول الملازم بوي لفت انتباه رفيقه عن التفكير في “إعدام لا يمكن أن ينفذ”، إلا أن الواقع كان أكثر عنادا من كل التفسيرات المتفائلة. فهل تعمد السجانون إظهار أدوات الإعدام من أجل إشعار السجناء بأن ساعتهم قد أزفت؟ وأيهما أفضل: أن تترك السجين يستفيد من حظوة الشك؟ أو أن تجعله يدرك ما هو مقبل عليه؟ مهما يكن فقد امتلك الملازم صار –وهو يتأمل قدره وحيدا في زنزانته تلك الليلة- الإجابة على هذا التساؤل وإن لم يجد الوقت للبوح بما توصل إليه لرفاقه الذين لن يقتنعوا بتنفيذ حكم الإعدام عليه إلا مساء التاسع من دجمبر حين سيلتقون بسجناء حركة “افلام” داخل الشاحنة التي ستقل الجميع إلى قلعة ولاته.

يتذكر المرشح الرئاسي السابق صار إبراهيما –في مقابلة مع السراج- بعض تفاصيل الرحلة إلى سجن ولاته والمعاناة التي سيعيشها قادة افلام جنبا إلى جنب مع العسكريين قائلا: “رغم كوني صحفيا وكاتبا لم أتمكن من تناول القلم من أجل سرد تلك الوقائع.. ربما أتمكن -مع الزمن- من تذكر تلك الشاحنة الجرارة التي تم شحننا فيها كقطيع من الماشية لقطع المسافة بين نواكشوط والنعمة وولاته على سطح الحوض مباشرة حيث نقضي حاجاتنا الإنسانية الطبيعية، ربما سأتمكن من تذكر أغلال الحديد في أقدامنا ونحن نسير على الهضبة المؤدية من القلعة إلى قرية ولاته حاملين حاويات الماء تحت شمس تتجاوز حرارتها 40 مئوية، وخناجر البنادق في ظهورنا؛ ربما أتمكن من تذكر مشهد تن يوسف غي، وجيغو تبسيرو، وعبد القدوس با، وبا الحسن عمر يحتضرون قبل موتهم من جراء سوء التغذية وسوء المعاملة، أو الأستاذ ابراهيم أبو صال وهو يتعرض للضرب حتى سالت دماؤه على يد الملازم غالي بسبب احتجاجه على الوضعية التي وضعنا فيها، ربما استعاد سمعي كل ذلك السباب الذي كان يوجهه لنا سجانونا وهم يصفوننا بشتى الأوصاف، يهود.. كفار.. إلخ.. ربما أتمكن من ذلك..”.

وليس هناك بالطبع من يستطيع تذكر المأساة أفضل من صحفي بارع عايش تفاصيلها واكتوى بنارها.. فحين يتلطخ التاريخ بأدران الحاضر وتصبح القوة الغاشمة اللغة المستخدمة في فهم المطامح والصراعات السياسية، تتحول الذكريات إلى بؤر ألم يجد كل طريقته الخاصة لمقاربتها، لكن الجميع –للأسف- لا يتعاملون معها بهدف محاصرتها ومعالجتها.

هكذا إذا اختار ولد الطايع التصعيد وضرب معارضيه بيد من حديد، لإخماد ثورة المثقفين وتمرد العسكريين. فكيف تمكن الثنائي ولد الطايع وولد عبد الله من القضاء على الحركة في مهدها؟

رغم أن ضابط الصف عصمان صار جازم بأن الشعور بالظلم الناجم عن اعتقال قيادات حركة افلام، كان الدافع وراء القيام بالانقلاب، إلا أن الحركة وبوي هارونا ينفون أية صلة لحركة “افلام” بالمنظمة العسكرية السرية التي تأسست سنة 1985 من طرف 6 ضباط من بينهم با عبد القدوس، سي صايدو با صيدي وصار آمادو.

فقد كانت الوضعية التي يعيشها العسكريون الزنوج داخل الجيش أكثر من كافية لإثارة النقمة، إذ أن العنصرية كانت قد تغلغلت فيه لدرجة أن اكتتاب الزنوج أصبح يتم وفق جرعات محسوبة، وتضاعفت العراقيل أمام ترقيتهم ومنعوا من الحصول على التدريبات. وكان إدخال العربية سنة 1987 كمادة إجبارية في امتحان الحصول على رتبة نقيب، القطرة التي أفاضت الكأس فعجلت بتحديد تاريخ الانقلاب.

وجدت المنظمة الوليدة نفسها في منتصف سنة 1987 أمام خيارين: إما أن تستمر في بناء قوتها تدريجيا إلى أن تصبح مستعدة بشكل كامل لانتزاع السلطة، أو أن تفرض نفسها كشريك لا يمكن تجاهله في حالة حصول أزمة تدفع إلى انهيار السلطة، وإما أن تراهن على ما راكمته من قوة وتتحرك باتجاه السلطة لأخذها.

وكان أن تضافرت جملة عوامل شجعتها على تبني الخيار الثاني.. فقد شعرت المجموعة الانقلابية بأنها أصبحت قوة معتبرة داخل الجيش، وتأكدت عن قرب من هشاشة الاحتياطات الأمنية في جميع المراكز الحيوية لمدينة نواكشوط، كما أن استمرار اعتقال قيادات افلام والمعلومات المتداولة حول ما يتعرضون له من سوء معاملة، جعلت الرأي العام الزنجي بشكل عام مهيأ لدعم أي تحرك انقلابي.

ومن جهة أخرى، كان عامل المفاجأة يعمل لمصلحة الانقلابيين وكانوا على وعي كامل بسهولة تحييد التشكيلات العسكرية المتواجدة في نواكشوط التي يحتل بعضهم فيها مواقع حساسة. هذا بالإضافة إلى “الرد المشجع من طرف العارف ب”الأسرار الغيبية” (الحجاب) على الاستشارة التي طلبوا بشأن حظوظ نجاح المشروع الانقلابي”. كان كل شيء إذا يغري بالتقدم نحو القلعة لدك حصونها.

يعتقد ضابط الصف عصمان صار –الذي شارك في الاجتماع المخصص لتحديد تاريخ الانقلاب مع الضباط ممثلا لضباط الصف- أن تحديد موعد الانقلاب والثقة المفرطة في حتمية نجاحه، جعلا المشاركين فيه يخرجون عن تحفظهم ويحتفلون بالفوز قبل خوض المعركة مما حرمهم حتى من وضع خطة لما بعد الانقلاب ولا حتى للتعامل مع وضع طارئ مثل اكتشاف أمرهم قبل التنفيذ. أما الملازم بوي هارونا فإن كان يشاركه في ملاحظة غياب مثل تلك الخطة إلا أنه يحمل فشل الانقلاب لثلاثة ضباط زنوج لا يريد حتى الآن البوح بأسمائهم.

أحد هؤلاء الضباط وصل إلى نواكشوط في زيارة مفاجئة مكنته من انتزاع اعتراف بقرب تنفيذ الانقلاب من أحد أصدقائه، وقبل رحيله إلى مقر عمله زار القصر الرئاسي لبعض الوقت. ومع أن التحرك كان وشيكا فقد انتظر ولد الطايع يوم 21 أكتوبر ليطلب من قائد الأركان العقيد أحمد ولد منيه تنظيف بيته من انقلابيين يستعدون للانقضاض عليه في اليوم الموالي، فكان على الأخير إجراء تحريات سريعة ستمكنه من السيطرة على الوضع لكن ليس قبل أن يتواجد المشتبه بهم في أماكن عملهم صبيحة يوم 22 أكتوبر.

هل كانت صرامة ولد الطايع الطريقة الأمثل لمواجهة هذا الملف؟ هل كان يواجه خطرا زنجيا؟ أم أنه هو من خلق هذا الخطر؟ سيظل هناك من يعتقدون أن الرجل واجه تمردا متناميا فرض عليه التعامل معه بالكثير من الصرامة، غير أن الأحداث اللاحقة والنتائج التي أسفر عنها تسييره للملف لا تترك مجالا للشك في أننا أمام نظام ضحى بوحدة الشعب للاستمرار في السلطة. فمن شرارة صغيرة في شكل بيان صاغه بضعة مثقفين، تمكن هذا النظام تدريجيا من إضرام النار في مختلف أرجاء الوطن.

وقد مثلت التصفيات من الإدارة والجيش التي بدأت سنتي 86 و 87، مؤشرا قويا لتوجه سيستمر لسنوات وسيأخذ طابعا أخطر مع دخول سياسة التطهير العرقي حيز التنفيذ سنة 1989 وتحويل كامل الضفة إلى منطقة عسكرية مراقبة، وبدء ارتكاب المجازر والتنكيل والإذلال. لم يكن الهدف مواجهة القوميين المتطرفين ومحاولة عزلهم، بل كان وضع كل الزنوج في قفص الاتهام ودفعهم شيئا فشيئا إلى كراهية وطنهم وفقدان الثقة فيه.

ولتعميق الانقسام بين مكونات الشعب تم استخدام سلاح الشائعات، لحشو الوجدان “البيظاني” بكل ما يمكن تصوره من الأساطير المنسوجة حول الخطر الهالبولاري أولا ثم الزنجي لاحقا. وقد آتت تلك السياسة أكلها وإن استخدمت أحيانا بغباء منقطع النظير، كالترويج لفكرة أن الانقلابيين الهالبولار كانوا يخططون لإقامة دولة “الوالو والو” التي هي في الأصل إمارة ولفية لا تعني شيئا في المخيال الهالبولاري! أو أنهم كانوا يخططون لارتكاب مجازر في حق المواطنين البيظان من أجل إقامة دولتهم الخاصة بهم، بينما الوقائع تشير إلى أنهم كانوا ضمن تحالف يضم عناصر من شريحة لحراطين، غير أن السلطات لم تعط أهمية لمشاركة عناصر من الحراطين في الانقلاب بل اكتفت بانتهاج سياسة متشددة إزاء الزنوج قادت فيما بعد إلى أحداث 1989/1991.

لقد كانت مصلحة النظام الآنية تقضي بإخراج مدبري انقلاب 87 من دائرة الوطنية واستغلال مغامرتهم لتعميق الشرخ بين مكونات الشعب، رغم أنهم كشفوا عن حس وطني رفيع خلال محاكمتهم، وأن خيبة أملهم كانت عارمة حين استطاع النظام تحجيم ثورتهم على الظلم، وإظهارهم أمام مواطنيهم بمظهر العنصريين. وقد كان الملازم صار آمادو أفضل من عبر عن ذلك الحس الوطني وخيبة الأمل تلك حين خاطب المحكمة في كلمته الأخيرة أمامها قبل أن تحكم عليه بالإعدام قائلا: “إذا كان رأسي يستطيع خدمة الوحدة الوطنية فلا تترددوا في قطعه.. وإذا كان شخصي بإمكانه خدمة الوحدة الوطنية فألتمس منكم العفو”..

لكن الوقت لم يكن للإنصات لنداء الضمير ولا لصوت الحكمة، لأن فيروس الحقد العرقي كان قد بدأ يسيطر على الجسد. ولن يفيق النظام من سكرته قبل 7 مارس 1991 (تاريخ إطلاق سراح المعتقلين) لكن بعد فوات الأوان وحين لم يعد الأمر يتعلق بشخص الملازم صار ولا برفيقيه فحسب، بل بمئات القتلى وآلاف المرحلين ومئات آلاف الضحايا، أي بوطن ينزف دما ويتضور ألما.

ملف خاص من إعداد “أقلام”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى